هند نصري
اللغة هي “بيت الوجود” الذي يسكنه الإنسان، وفيه يتخذ كل شيء مكانه، فمن خلالها يمكننا التعبير عما يجيش بخواطرنا وعقولنا وإضفاء معنى لنشاطنا وهويتنا وعلاقاتنا بالأشياء والأفكار والناس، وقد رافقت اللغة الإنسان منذ فجر التاريخ وتطورت بتطوره فطبعت مختلف الحضارات التي شيدها بطابعها الخاص، و ما تعدد الثقافات واختلافها قديما وحديثا إلا بسبب تعدد اللغات وتمايزها فيما بينها، ولعل أهم ما يميز المشهد الثقافي في بلادنا هو تنوع اللغات وتباين اللهجات حيث تشكل اللغتين العربية والأمازيغية قطبي هذا التنوع ، والملاحظ أنه كلما كان النقاش يدور حول الأمازيغية في علاقتها بالعربية ، إلا وتعددت الرؤى واختلفت المقاربات من باحث لآخر كل حسب عدته النظرية وخلفيته الأيديولوجية وتوجهاته السياسية ، حتى أن بعض المواقف نجحت في خلق صراع مزعوم بين ما هو أمازيغي وما هو عربي لا لشيء إلا لزرع الفتنة والضغينة بين هذين المكونين التاريخيين الحضاريين ، فما هي العلاقة المفترضة إذن بين هذين الكيانين اللغويين؟ هل يتعلق الأمرُ بصراع ألسن ولغات باعتبار الأخيرة علامات وأنساق وضعت للتواصل كما يعتبرها مؤسّس اللسانيات الحديثة “فيرديناند دوسوسير” في كتابه: (دروس اللسانيات العامّة cours de linguistique générale ) ، أم صراع خطابات وأيديولوجيات؟ وإذا كانت العلاقة بين هاتين اللغتين علاقة تعايش وتكامل تاريخي فأين تكمن مواطن هذا التعايش؟
يعتبر التعدد اللغوي ظاهرة لسانية طبعت المجتمعات القديمة والمعاصرة ، وتشير الأخصائية في اللسانيات وعلم النفس الاجتماعي “Barbara Bauer” :”أن ثلاثة أرباع ساكنة العالم متعددة اللغة وأن الازدواج اللغوي هو القاعدة بينما أحادية اللغة حالة خاصة”، وفي بلادنا يؤكد الواقع التاريخي والأنثروبولوجي واللّساني أن تواجد العربية بجانب الأمازيغية هو تواجد قديم يمتد لقرون خلت، وهاته الازدواجية لم تشكل يوما نقصا أو شائبة ولم تكن أبدا عاملا من عوامل التفرقة والانقسام، بل كانت على الدوام عاملا من عوامل الإثراء والاغناء والتعدد الثقافي الذي تتميز به الهوية والشخصية المغربية، وقد عاش المغاربة في انسجام داخل هذا الاختلاف (التعدد في اطار الوحدة والوحدة في اطار التعدد) ، وتاريخنا خير شاهد على ذلك ، فقد أنتج الكثير من الأمازيغ علما وفيرا في حضن الثقافة العربية الإسلامية ، بل هناك من انبرى وكرَّس حياته للدفاع عن الثقافة العربية تأليفا وتصنيفا ومقاربة سيما في العلوم الشرعية واللغويات وعلوم المنطق والتاريخ و أدب الرحلة ، اضافة إلى ما كتبوه من حواشي وشروحات ومخطوطات، كابن آجروم الصنهاجي صاحب المنظومة النحوية المشهورة التي حفظت النسق القواعدي النحوي للغة الضاد في شكل أبيات شعرية و ابن مالك الأندلسي في ألفيته المشهورة (ق4هــ) و أبو القاسم الزياني المؤرخ الامازيغي الذي استطاع أن يكتب خمسة عشر مصنفًا وترجع شهرته الجغرافية إلى كتابه في أدب الرحلات “الترجمانة الكبرى” الذي جمع فيه أخبار العالم وعلومه و محمد بن أحمد أكنسوس ( 1877- 1796م ) المؤرخ والأديب والصوفي الأمازيغى الذي عد من أهم رجال الدولة العلوية ومن أغزر علمائها انتاجا وأكثرهم تحصيلا ، اضافة إلى مجموعة من الشخصيات الثقافية المغربية ، أمثال: ” المختار السوسي “الذي كان يفتخر بأمازيغيته، وتجد الحس الهوياتي حاضرا بقوة في تصانيفه ورسائله، وكان في الوقت نفسه يعتبر اللغة العربية لغة لذيذة لذلك حينما تتناول كتابات هذا الرجل بين يديك تجده أحيانا يمزج بين العربية والأمازيغية بعيدا عن كل تشنج، وغيرها من الاسهامات التي لا مجال لتفصيلها في هذا المقام المقتضب.
إن العلاقة إذن بين هذين الكيانين اللغويين طبعهما التعايش والتاريخ المشترك، فالأمازيغية والعربية على حد تعبير محمد جسوس: ” كالرجل اليمنى والرجل اليسرى بالنسبة للشخص، إذا فقد أي واحدة منهما فلن تكون له القدرة على المشي بشكل عادي، وبالأحرى القدرة على السير بالسرعة والوتيرة التي تتطلبها تقلبات التاريخ المعاصر.
ثم إن تفاعل وتعايش العربية إلى جانب الأمازيغية أنتج على مستوى التاريخ، مستوى تعبيريا ثالثا متوسطا يعكس عمق هذا التداخل والتفاعل، هو اللسان الدارج المغربي (الدارجة) ، مما يوحي بعبقرية الشخصية والذات المغربية وقدرتها على تذويب كل الخلافات وجاهزيتها على تجاوز كل الفوارق، وهو ما قاربه الأكاديمي المغربي محمد شفيق حينما ألف عمله القيم ” الدارجة المغربية مجال تداول بين العربية والأمازيغية”.
هكذا نتخطى تلك المغالطة التي تنصب التضاد بين الأمازيغية والعربية، إلى اثبات أن العلاقة التاريخية والواقعية القائمة بين الأمازيغية والعربية هي علاقة تضافر وتعاون، فثمة نوع من التوازن العفوي داخل المنظومة الاجتماعية المغربية، حيث أن توظيف كل منهما لدى المواطن المغربي العادي رهين بمدى الحاجة الواقعية واليومية في التواصل، لذلك ينبغي العمل على تلبية هذه الحاجة عن طريق تعليم كل أفراد المجتمع دون استثناء اللغة التي يحتاجون إليها في التواصل، أما مواقف بعض النخب السياسية أو الثقافية، التي تحمل نوعا من الصراع بين الثقافة العربية والأمازيغية داخل المغرب، فتظل حبيسة رفوف المكتبات وأعمدة الجرائد الصفراء، لأنها في الغالب تكون ذات طابع أيديولوجي يحجب حاجات وحقوق الإنسان المغربي العادي، وقد آن الأوان لنعطي المساحة اللائقة لثقافة الاختلاف وقبول الآخر المختلف في عاداته وتقاليده ولغته، وأن نستبدل معادلة التصارع اللغوي والثقافي المفتعل، بمعادلة التعايش اللغوي والثقافي المحتمل، لنعزز الشعور بالانتماء لهذه الأرض ولخصوصيتنا التي تميزنا كمغاربة عربا وأمازيغ.