
د. رشيد العفاقي
رأيتُ في إعادة افتتاح ساحة “سور المعكازين” مناسبة لتقديم بيانات تاريخية حول هذا المكان، لا سيما بعد أن تابعتُ مجموعة من الآراء المختلفة عن أصل التسمية. فنشرتُ مقالا في “جريدة طنجة” بعنوان: من صور ماڭازين إلى سور المعڭازين. ثم نُشِر ثانية في موقع (رائدات) وموقع (طنجة 12) باختلاف طفيف في العنوان هو: من السور دْ مڭازين إلى سُورُ المعڭازين. حرصت فيه على تقديم البيانات الموضوعية لتاريخ سور المعكازين، من غير أن أخرج عن الوثيقة والنص أو إلى الاستطراد وحشد الروايات الشخصية التي لا تفيد في شيء.
وما أن نُشر المقال حتى تلقفه الناس بالإعجاب والتعليقات المؤيدة على هذه المقاربة الجديدة لتاريخ سور المعڭازين. وبينما الناس كذلك خرج أحدهم يصيح فيهم: انتظروني غدا .. انتظروا مقالي حول الاسم التاريخي والحقيقي لسور المعڭازين.
استبشرتُ خيرا، لأن رسالة التاريخ كما أفهمها هي الكشف عن الحقيقة، ويسعدنا أن نجد من ينوّرنا في هذا الطريق .. فبقيتُ أنتظر مع المنتظرين، وبأن يفيدنا المؤرخ الجديد للمدينة ببيانات لم يسبق أن عرفها الناس عن سور المعڭازين .. بيانات تُعيد الأمور إلى نصابها وتقطع الشك باليقين.
ثم طلع مقال يحمل عنوانه جرعة كبيرة من “الأنا”، خلاصته أنّ قول صاحبه في هذا الموضوع هو القول الحق وأنّ ما عداه “روايات لا أساس لها من الصحة”.
أُصِبْتُ بخيبة حين قرأت المقال، لأن صاحبه حشده بالعديد من المغالطات نسبها إلى “بعض الروايات التاريخية” ولستُ أدري من أين أتى بها. والحُكْم في هذا المقال هو أنه كلام لا يعوّل عليه لأنّ صاحبه لم يقدّم في كل ما ذَكَرَ مرجعًا تاريخيًّا واحدا يمكن الاطمئنان إليه.
ذكر صاحب المقال أنّ ربط اسم الساحة باسم متجر “صور مغازين” الذي فتح أبوابه في الخمسينيات ربط غير صائب. ثم تساءل: ألا يمكن أن يكون هذا المتجر هو الذي أخذ اسم السور وليس العكس؟
وهذا تساؤل مُضْحك … لأنه يفرض علينا أن نتصوّر أن الشركة النمساوية ذات الماركة العالمية نزلت طنجة وتخلّت عن اسمها واتخذت اسم: “فوطو معڭازين” أو “صُور معڭازين” لتسويق بضاعتها … وهذه نباهة وفطنة عزّ نظيرهما. ومع ذلك يمكن أن نجاريه في افتراضه ونقدم له الجواب وهو: أجل، يمكن أن يكون ذلك قد حصل بالفعل، .. ولكن بشرط عليك أن تجتهد في البحث عن الأدلة والشواهد التي تثبت ذلك، هذا هو الطريق الوحيد المعتمَد في البحث التاريخي، أما أن تأتي بخليط من القصص والهلوسات وتُقَدِّم لها بعبارة “أكّدتْ الروايات التاريخية” فإنّ هذا أسلوب لا ينفع الناس وإنما يُضلّلهم ويحجب الحقائق عن أعينهم.
ومن حُجَج صاحب المقال الدامغة هذه النكتة السمجة التي تقول إنه كان يوجد بالمكان “مقهى سور المعڭازين حيث كان طنجاوة يتابعون أخبار الحرب العالمية الثانية”. .. وهذه ينبغي أن تضاف إلى تسالي رُوّاد المقاهي وحكاياتهم التي تكون من وحي نشوة التدخين، ولطالما حذّر المؤرخون من الاعتماد على الروايات الشفوية دون تمحيص وتدقيق، ودونما التحقّق من أهلية الراوي لها، لأنه عندما تكون “الكِيفْ مْسُّوسَة” تنشط المُخَيِّلَة وتكون النتيجة: حكايات من هذا النوع الذي قرأناه. هي قصص من زمن طنجة التي قال فيها محمد شكري: “في طنجة، يمكن لأي بارع في الحكي أن يخترع أية حكاية فَيُصَدَّق، أو عليه هو أن يُصَدِّق حاكيها حتى تتم متعة العيش في سحر أسطورتها المتلونة” (بول بولز وعزلة طنجة، ص.36).
ويمتلئ المقال بكلام لا يستقيم على حال، فما معنى هذه العبارة: “الجلوس على السور” .. هذا استعمال دارج، فالسور لا يُجْلَس عليه وإنما يُسْتند إليه. أما تلك الدكة التي تمتد على طول رصيف شارع باسطور والتي يجلس فوقها الناس بعين المكان فهي ليست السور (ومتى كان السور ارتفاعه متر واحد؟) وإنما السور المقصود هو البناء الحاجز القائم بالحديقة التي بأسفل الدكة المُشار إليها، فهذا هو سور المعڭازين. ثم ما نفع الاستشهاد بالصور الكثيرة، فالصور لا تَنطق وإنما تُسْتنطق، ولا أظن أن صاحب المقال نجح في استثمار هذا العنصر (الصور) في مقالته.
عموما إذا كانت مقاربتنا للموضوع رواية “لا أساس لها من الصحة” .. فما أَتَى به صاحب المقال، موهما نفسه والناس أنه هو الاسم الحقيقي والتاريخي لسور المعڭازين، لا يعدو أن يكون هَذَيَانًا مُقَنّعًا، مكتوبا بلغة حَطَبِيّة بعيدة كل البعد عن لغة البحث التاريخي.
بعد ذلك، دخل على الخط الأستاذ حسن الزكري، مُعَزِّزَا لصاحب المقال، ومؤيدا لطروحاته، إذ لم يرقه هو أيضا الاجتهاد أو المقاربة المدعمة بالوثائق والنصوص التي قدّمناها، فاستبعد ما توصلنا إليه، وكان عليه أن يعرف أنّ “الاستبعاد” ينبغي أن يكون هو كذلك مبنيا على معطيات موضوعية معقولة، وبالتالي فـ”استبعاده” بدون حجة أو دليل لا يجوز الالتفات إليه.
وقد فَهِمَ من قولي أنّ شركة (Photo Magazine) “لم تكد تحط الرحال في طنجة حتى غادرتها” أنه لم تكن لمحل هذه الشركة “تلك الشهرة التي تؤدي إلى إطلاق اسمه على مكان بهذه الشعبية كسور المعڭازين”.
والحال أننا لم نقصد أنّ الشركة فتحت مكتبها بطنجة اليوم ثم غادرتها في اليوم الموالي، فحين نكون نتحدّث على نسق زمني معين ينبغي أن نوسّع أفق النسبية في التحديدات، فأنا قصدتُ الفترة التي تلت عهد الاستقلال مباشرة، وأنّ معنى كلامي هو أن الشركة افتتحت مكتبا لها بطنجة عام 1956 واستمرت بعد ذلك لسنوات قليلة، في كل الأحوال لم تتجاوز سنة 1962 حين تقرّر إلغاء الشركات الأجنبية بطنجة، ففيما بين هاتين السنتين ظهر اسم: سور المعڭازين. وليس صحيحا قوله أنّ “سور المعڭازين كان معروفا بهذا الاسم قبل الأربعينات، كما يحدثنا آباؤنا”، فهذا الكلام من جنس الهذيان السابق، فالمكان بحسب مخطط طنجة لعام 1924 يشير إلى الشارع باسم (Boulevard Pasteur) وإلى الحديقة باسم (Peña) أي إلى مالكها الإسباني.
ومما ذكره صاحب هذا المقال أنّني قلتُ “صوَر” بفتح الواو، وأنّ الاسم الذي يطلق على المكان هو “سُور المعڭازين” وليس “صوَر المعڭازين” .. وشتان بين الكلمتين.
ويبدو لي أن صاحب هذا الكلام لم يقرأ مقالي كاملا، فلو رجع إليه وتمعن فيه لوجد أنني أتيتُ برواية اليهودي الطنجي التي تقول أنّ سور المعڭازين أخذ اسمه من مختبر “صُوَر مڭازين”. وقد وضّحت في مقالي أنّ المحل لم يكن مختبرا للتصوير وإنما كان محلا تجاريا، وقلت إنه قد يكون (Photo magazine) بدأ يطبع أظرفة وفواتير عليها اسم “صُوَر مڭازين”، وبالتالي لا غرابة أن تتحول “صُوَر مڭازين” عند أهل طنجة إلى “سُور المعڭازين” بسبب ذلك التقارب اللفظي وهم المولعون بقلب الأسماء. ثم استدركتُ مُرَجِّحًا “أن يكون التحوير لم يشمل إلّا القسم الثاني من التسمية التي أُطلقت على المكان وأعني: (مڭازين/ الذي تحوّل إلى معڭازين)، وأنّ الثابت هو “السور” .. وبالتالي، فالصحيح عندي في هذه المسألة هو أنّ السُّور الداعم الذي بُني لوقف أي انجراف محتمل لطبقة الأتربة التي تُشكّل قاعدة شارع باسطور في موضع الانفراجة المذكورة أصبح ملتقى بعض أهل طنجة، ولمّا كان السُّور مجاورا للمحل الذي تعلوه شارة “مڭازين”، أصبح موضع الملتقى والجلوس تبعا لذلك لا يُعرف إلّا بـ”السور دْ مڭازين”، قبل أن يتحوّل اسم الموضع لاحقا إلى سور المعڭازين”.
هذا هو كلامي بحرفه. ولم يكن الغرض من المقال الدخول في معارك، وإنما كان هو إنجاز بطاقة تقنية تاريخية تكون مشتملة على العناصر الثابتة في سيرة هذا المكان واستبعاد الروايات التي لا سَنَدَ لها.