مقالة نقدية، حول التجربة السردية، للكاتب العراقي الكبير: حميد محمد الهاشم.

محمد الطايع

1 _ الأديب حميد محمد الهاشم، شاعر مُلهم، مبدع في صنف القصيدة النثرية الحداثية، وكاتب مجدد في جنس القصة القصيرة. نصوصه السردية المميزة، تستوقف القارئ ليعيش معه متعة الدهشة المضاعفة، وهو الحريص على التنويع في الثيمات والأنساق، مع إيمانه العميق برسالته الإنسانية، لأنه صاحب مشروع إبداعي قويم، ورؤية خلاقة تؤيدها إمكانات عبقرية ذاتية تجعله مختلفا عن غيره من الأدباء، غايته أن يضيف الكثير للمشهد الثقافي الإبداعي العربي الحديث.

 

2 _ حميد محمد الهاشم:
العراق/ بغداد.

_ أحب هذا الأديب المتفرد، الأدب منذ طفولته، خاصةً الشعر والقصة، وقد ألفّ في ذلك الوقت رواية بعنوان ” عاصفة بلا ريح”.. فقدها مع العواصف التي مرت بها بلاده.

_ حاصل على بكالوريوس/ علوم حياة ” بايلوجي مع الأحياء المجهرية” / كلية تربية/ جامعة بغداد. يعمل حاليا في مهنة التدريس.

_ نشر أول نص شعري في جريدة القادسية العراقية وجريدة بابل وذلك في ثمانينيات القرن الماضي. لكنه توقف عن النشر لأسباب كثيرة تتعلق بوضع البلد إلى ما بعد عام 2003.
حيث عاود النشر في مختلف الصحف العراقية مثل الدستور والمؤتمر والزمان والبينة والعدالة وغيرها من الصحف العراقية والعربية والمواقع الإلكترونية.

_ صدرت له عام 2022 مجموعة شعرية ( مرساة لنوافذنا الضائعة)

صدرت له هذه السنة 2025 مجموعته القصصية الأولى ( شعاع أبيض.. نافذة سوداء ).

_ شارك في إصدارات ملتقى دار السرد الروائي بمشاركات قصصية مع كتّاب آخرين منها :
كتاب السردية الثلاثية ، كتاب السردية الرباعية، كتاب السردية الخماسية.
والآن هو بصدد إعداد، مجموعة قصصية في طريقها للطبع بعنوان مؤقت ( في الطريق إلى الصفصاف ) وأخرى شعرية.

_ حصل على عضويه إتحاد الأدباء والكتاب المركزي في بغداد منذ عام2009.

_ حصل على لقب قاص العام ل2022 في ملتقى السرد الروائي بعد أن حصل على المراكز الأولى في عدد من مسابقات أقامها هذا الملتقى و مراكز متقدمة أخرى لنفس العام وقد اشترك بهذه المسابقات أدباء من مختلف الوطن العربي.

_ حصل على لقب قاص العام ل 2023 في منتدى المشكاة الأدبي بعد أن فاز بسلسلة من المسابقات على مدى ذلك العام بمراكز متقدمة.
مثل قصته ( مكابدات الأستاذ صيهود) التي فازت بالمركز الأول.

_ في /أبريل 2023 فازت قصته ( لا سماء في النافذة ).. بالمركز الأول.

_ في يونيو من نفس العام فازت قصته القصيرة ( علامة فارقة ) بالمركز الأول.
_ فازت قصته ” الفخ” بالمركز الثالث كذلك.
_ فازت قصص أخرى له، في هذا العام في هذا المنتدى بمراتب متقدمة.
_ 2023 / فازت قصته القصيرة ، ( الطحين ) بالمركز الثالث في مجلة القصة المصرية.
_ 2023 / أبريل فازت قصته القصيرة ( في انتظار أن أحترق ) في محور الفنتازيا بالمركز الثاني ..في ملتقى السرد الروائي.
_ 2023 / أبريل فازت قصته القصيرة ( حسون الإبن الضّال ) بالمرتبة الثانية في محور الأدب الساخر .
_ 2022 / حصل على المركز الثاني لمسابقة القصة القصيرة في أكاديمية سفير القلم في هولندا بقصة ( الشاعر والكلاب. )
_ استضاف برنامج القصة القصيرة في ملتقى مبدعين على أبواب مصر قصته القصيرة، ( الشاعر والكلاب. )
_ نالت قصته ( الرجل والضباب) المرتبة الثالثة في مسابقة مجلة الهيكل الأدبية.
_ فازت قصته القصيرة ( يوم آخر لحمدان ) بالمركز الثالث في مجلة القصة في مصر.
_ يونيو 2023 قصته القصيرة.. ( الفراشة ) تفوز بالمركز الثالث في ملتقى دار السرد الروائي.
_ في عام 2024 نالت قصته ( لا وقت للحياة ) المرتبة الأولى في ملتقى السرد الروائي.
_ 2024 فازت قصته ( مارينا ) بالمرتبة الثانية في ملتقى السرد الروائي.
_ في نفس العام 2024 فازت قصته القصيرة ( غوايات السراب ) بالمرتبة الأولى.
_ حصل على جوائز في المسابقات الشعرية في العراق وخارج العراق..
المركز الأول مرتين من مؤسسة العيون.. والمركز الثالث.. على وسام الإبداع في الأكاديمية الدولية لاتحاد الأدباء والشعراء العرب..
_ حصل على المركز الثاني في مجلة دار العربي للشعر والآداب الإلكترونية..
حصل على شهادات تقديرية من كثير المؤسسات الثقافية والأدبية المحلية والعربية.
_ ترجمت بعض قصائده النثرية وبعض قصصه القصيرة إلى اللغة الإنجليزية.

 

3 _ نص القراءة.
لمقالتي هذه، اخترت خمس نماذج قصصية قصيرة وقعت باسم كاتبنا حميد محمد الهاشم، وهي كالآتي :
_ امرأة برية
_ علامة فارقة
_ من ليالي الهاوية
_ عين القمر
_ لا وقت للحياة.
ولولا مخافة الإطالة، وددت لو أمكنني التحدث عن عشرات القصص الرائعة، التي زين بها كاتبنا حمبد صدر المشهد السردي العربي، وذاك أن كل سردياته، تحمل طابع انتمائها المتفرد له، جميعها مميزة وبارعة في استفزاز ذائقة وفضول القارئ. لذلك أقول : ان اختياري لهذه النصوص الخمسة خضع لمعيار التنويع في المضامين والثيمات التي يشتغل عليها أديبنا حميد محمد الهاشم.

قبل أن نتدبر البؤر الأساسية للقصص موضوع المقالة، أرى أن من اللازم أن أشير أن الكاتب حميد محمد الهاشم، من أكثر كتاب القصة القصيرة المعاصرين غزارة وعنادا، وهو في ذلك عادل بين ميله للشعر وميله للسرد، الذي استقر اهتامي عليه كموضوع للتأمل والقراءة، لأقول أن الكاتب حميد محمد الهاشم، في تجربته السردية، اختار وعن قناعة راسخة، التجديد على مستوى البنيات والرموز والدلالات، ومن أبرز تقنيات هذا الاختيار، تجاوزه بمهارة فائقة لتقاليد السرد الكلاسيكية، وذاك أنه متمسك بفكرة خلق الأنساق الجديدة، حتى لو اضطر لنبذ بعض تقنيات السرد المألوفة مثل التصاعد الدرامي، وتطور الشخصيات بالشكل التسلسلي البسيط، وذاك أنه يؤمن أن تطور البشر يأتي عبر مراحل حياتية كبرى، ورصد هذه التطورات هو ما يمنح القصص بعدا إنسانيا عظيما، وأثرا لما بعد القراءة لا يمكن الخروج منه بسهولة.

هذا الشكل سوف يعتمد في بعض النصوص شكل السرد الدائري اللانهائي، وذلك ما سوف يبدو واضحا في قصته المميزة ( من ليالي الهاوية ) وهي منشورة ضمن كتابه القصصي، ( شارع أبيض.. نافذة سوداء ).

من تقنيات الكتابة السردية المتبعة عند اديبنا حميد محمد هاشم، والتي تميز نصوصه عن غيرها، قدرته النادرة على القفز بين الأزمنة والأمكنة، من أجل ملاحقة الروابط الفعلية التي تصل بين ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله، لتحل هذه الملاحقات المسافرة في طول الزمن وعرض المكان، محل الثيمة الدرامية التي تخضع لمنطيقة التتابع السهل الميسر والبسيط، تلك التقنية حقيقة أصابت عموم القراء بالملل، وبات واضحا أن السرد يشترط الآن من أجل الرقي به، بحثا عن طرق جديدة، أكثر إقناعا، وذلك عن طريق تعويض خطة مخاطبة القارئ بوضوح ومباشرة، بحيل أخرى تهدف لغاية التسلل إلى داخل نفسية القارئ وملامسة همومه بشكل أكثر عمقا.

 

4 _ هنا نصل إلى مرحلة هامة بخصوص تصنيف نصوص الكاتب حميد محمد الهاشم، فنقول إنها قصص تتحدث عن الواقع، لكنها تفعل ذلك بلغة تجمع بين التجريد والتوازي والرمزية والتكثيف، دون إغفال البعد الفلسفي والسيكولوجي للشخوص، مع الخلفية التاريخية، والوقائع الكبرى، المؤثرة في تحديد خصوصيات الزمكان السردي.

من الواقع تنطلق فكرة أكثر نصوص الكاتب حميد محمد الهاشم، باعتبار الواقع هو الباعث الأساسي لفكرة السرد، وذاك أن الواقع عموما هو المادة الخام لثلثي سرديات العالم، مالم يجنح الكاتب للأسطورة والفانتازيا أو اللوحة الفنية الخيالية أو السوريالية. وحتى لا يعتقد القارئ أننا نقف من هذه الأصناف الإبداعية، موقف الضد أو التبخيس، أو يتهم كاتبنا _ حميد محمد الهاشم، أمام من لم يسبق له التعرف عن قرب على تجربته السردية _ بضيق الأفق، وعدم القدرة على تطويع كل عوالم الأدب الجمالية، اخترنا قصة ( امرأة برية ) نموذجا ضمن النصوص الخمسة، لإبراز مدى قدرة هذا المبدع المتعدد، على التحليق أيضا وبنبوغ خارج حدود الواقع، وذلك ما حدث مع مشاهد استثنائية عجيبة مدهشة رسمت بفتنة ظاهرة، الروابط والرغبات الفطرية المتأصلة في ذوات البشر، والتي يجسدها ذلك الصراع / المعشوق، منذ الأزل بين الذكر والأنثى، حيث عمق النص أهمية الطرح الوجودي والفني الذي يمكنُ للكتابة الإبداعية مسرحته بالكلمات.

ثم نعود للحديث عن باقي التصنيفات مثل الروايات التاريخية، أو روايات الرعب، الرومانسية، أو الخيال العلمي. فنؤكد أنها كلها تساهم في إضفاء صفات الجمالية الإبداعية على الأدب، بينما يبقى الواقع الظرف الأكثر اتساعا وتنوعا من كل عوالم الخيال، شرط ألا يزعم الكاتب المتماهي مع سيرته وواقعه ومشاهداته، أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، لأن البحث عن الحقيقة أسمى غايات الكتابة. وألا يكون الأدب مجرد محاكاة ساذجة للواقع، وذاك أن مهمة الأدب والفنون عموما، لم تكن لتحقق غايتها السامية، لو أنها ظلت مجرد وسلية لإعادة انتاج الواقع.

الواقع، وكما حاوره كاتبنا حميد محمد الهاشم، مجال ثري للإسهام بالكلمة المبدعة، في تحقيق التراكم الكمي للنصوص الجيدة، وهو كفيل بتمكين مبدع حقيقي من طينة كاتبنا، من بلوغ غايات أسمى، منها فضيلة التصالح مع الذات وتحريرها من عقدة الذنب، كما سنرى ذلك في قصة ( لا وقت للحياة ) وذلك بعد الفصل في القضايا المعاشة، وقسوة التجارب وملابساتها، عبر سرد تفاصيل العيش المستعادة من قلب ذاكرة لا تنسى.

لن يتوقف سعي الكاتب حميد محمد الهاشم، للتحقيق في هذه المجريات، عند حالة معينة، فهو أيضا ذلك المفكر المخلوق من عاطفة العرفان، والفخر بالهوية والانتماء، مما يفرض عليه تأكيد قيم الشجاعة الأصيلة، والوقوف موقف الرفض من الزيف، من أجل الاحتفاء بالبطولة، ولو من باب الاحتجاج الصامت _ كما جاء في قصة ( علامة فارقة ) _ على ما يطال سيرة النبلاء من تزوير، وما يعانيه الأبرياء من قهر، وما يربك الفهم الحر، ويخلخل معايير التمسك بالحرية، مفهوما، وممارسة.. وهنا تكمن إحدى دلالات عبقرية الكاتب حميد محمد الهاشم، لأنه تمكن من بعث روح قيمة الشهيد الحقة من خلال استنطاق سردي للصورة الصامتة، فأضحت رغم تراجع زمنها الحقيقي نحو الوراء، وسيلة لفضح سيرة الفساد، ومباركة المواقف العظيمة. مثل هذه البراعة طبعا لن تؤتى لكاتب، مالم يتمتع بمخيلة حكائية جامحة.

 

5 _ النصوص الخمسة المختارة

1 _ ( امرأة برية ) جموح المخيلة.

( الأسطورة المستحدثة في هذه القصة القصيرة، أسطورة جديدة أنشأت بمعايير مخيلة الكاتب، كما أنها تعمل عمل التناص مع أساطير أخرى عالمية )

بأسلوب سردي يمتاز بالخفة، والسرعة،
ترسم ريشة الكاتب، مشهدا أسطوريا، يحاكي لوحة تجريدية، في مجملها تخلق الدهشة وتستفز المشاعر المكبوتة، حيث يتجسد الصراع الأزلي بين الرجل والمرأة / الشعوب القوية، والشعوب الضعيفة التي لا تملك حلا سوى حمل السلاح، من أجل الثأر لما سلب منها، وكيف تكافح الأمم البدائية لرد اعتبارها أمام هيمنة الشعوب المتغلبة / الرجل على هيأة محارب روماني قديم، يرمز للكائن العنيف الدموي منذ أقدم عهوده، ومن صفاته أنه لا يتذكر ضحاياه، فلا شيء يهمه إلا احتلال المزيد من الأراضي والأجساد، والمرأة على هيأة محاربة من أمة الأمازونيات، اللواتي يجسدن رغبة الإناث في الاستقلال عن الذكور، لولا أنهم يمثلن الغواية أيضا، وكأن أقوى مهارات وأسلحة الأتثى، قدرتها على إغواء الرجل، ثم تتخذ المعركة شكل العلاقة الحميمية، وتختفي الفوارق بين اللذة والألم، الكر والفر، الطعن والنزف، لتشهد هذه المعركة على ما لا يمكن الفصل فيه سواء تعلق الأمر بذروة الصراع، أم بمقدماته وخلفياته النفسية والتاريخية. حتى يتضح للمتأمل أنها لا نهائية، وأن النصر والهزيمة نسبيان، وأن كل كائن على هذه الأرض، يمارس جموحه وشغفه من زاوية رؤيته الخاصة، مهما تشابك مصيره بمصير غيره.
* وللتنوير هذا مقتطف من مشاهد قصة ( امرأة برية.)

 

[ الآن الثأر..، يخذلني حصاني فأسقط أرضا، كما سقطتْ هي أرضا ؛ لأني خدشتُ جوادها، لكن كلا الجوادين نهضا ودارا حولنا بعاصفة من تلك الرمال. أنا روماني الموطن، عارٍ تماما الاّ من تلك القماشة ، ألفّها حول جذعي. هي بذراعين عاريتين، نصف ثدييها مغطى بدرع من جلد مخطط بين أسود وأبيض، البطنُ عارٍ..فيما قطعة جلد أخرى بثنياتها تصل لنصف فخذيها، تسكن الغابات، أظن ذلك ،ولهذا لفّتْ على ساقيها أوراق نباتات وأغصان رفيعة. ها نحن نتقاتل. ]

2 _ ( علامة فارقة ) محاكمة الضمير الجماعي )

( تعتمد هذه القصة على تقنية توازي أزمنة السرد، وتقابل زمن الموتى الأحياء في ذاكرة البطولة، وزمن الأحياء الأموات في حاضر التظاهر بالوطنية، حاضر المحاسبة الأولى، قبل المحاسبة الكبرى، حيث النار والجنة. رمزية البطولة تختزلها صورة شهيد معلقة في متحف الشهداء، ورمزية الخيانة يختزلها صديقه الجبان المرابي الثري من الفساد والسياسة )

إنها قصة جوهرة، تحفة نادرة في عالم السرد القصصي القصير، لغتها ملك خاص بها، تداعيات الزمن الماضي، زمن الثبات على المبدأ والوقوع في يد السلط الآثمة. وهذا الشهيد ليس وحده، مثله كثيرون اختطفوا ضاعوا، حرفت سيرهم، ثم أصبح الجبناء أوصياء على ميراثهم، بعدما هربوا خارج الوطن، وأسقطوا من حسبانهم كل القيم. والآن في الزمن الحاضر تخبرنا الصورة المعلقة أنها وجدت صعوبة في تذكر هذا الكائن المسخ، الذي يدعي أنهما كانا صديقان، حيث يأكل الندم ما تبقى من فؤاد صاحبه الخبيث، أما القلب الحقيقي فقد ابتعلته الخيانة، ولذلك فشلت روح الشهيد في التعرف عليه، لأن شهداء الوطن لا يتعرفون على البشر من ملامح الوجوه، بل من خلال القلوب، وذاك أن القلب، هو ما يميز إنسانا عن آخر، أما الوجوه فإنها في الغالب تبدو متشابهة، وسط كل ملابسات سيرة البشر ، يظل القلب هو العلامة الفارقة.

* للتنوير هذا مقتطف من قصة ( علامة فارقة )

 

[ أنا أرى الجميع في هذه القاعة المليئة بالجميع. نصفهم أموات ،نصفهم الآخر على قيد التأمل لما هو معلّق ما فوق الجدران..صور كثيرة ،ربما بقدر المجازر الجماعية ، الأنين والحنين والحشرجات والآهات تتعالى في هذه القاعة ، قاعة الشهداء ، الشهداء ممن لم يعودوا إلى ذويهم، لاخبرَ، لاجثمانَ، لا عزاء ، السكوت قبل ثلاثين عاماً مع حبس الأنفاس علامات العزاء العلنية، ومن يخرق السكوت ولو بدمعة يلتحق بهم.]

3 _ من ليالي الهاوية ( العالم في عين الحقيقة )

( هنا تغيب الحبكة السردية، ويحضر سرد الحقيقة، بالصيغة الوحيدة التي يمكن أن تلاحق الوقائع الحاسمة من خلالها، ويتم تأطيرها بإطار من الوعي الخالص، إنها الحقيقة المطلقة، حقيقة الأقنعة التي لا نعرف حقيقة إن كانت أقنعة، أم أن الوجوه خلقت على شكل أقنعة، ما دامت مؤبدة الالتصاق بالبشر، حتى أضحى ظاهرها هوية، ولأن الأسماء مجرد حالة تمويه عابر، وكذلك أزمنة العالم، وتشابه أمكنته، باتت كل الظروف مسرحا متكررا اللا معنى ، وخواء التعابير، وسقوط قيم الحرية، والذوبان في فوضى المصالح الخاصة، ثم إن حال هؤلاء الذين يحجبون قلوبهم وارواحهم سعادتهم وأحزانهم، طموحاتهم ومخططاتهم خلف الأقنعة، في حياة أشبه بكرنفال اختلط ليله بنهاره، فقدوا حاسة الإبصار، والشعور بالوقت، والتمييز بين الليل والنهار، كأنهم على صعيد واحد، يجسدون أبشع صورة للقيامة، كأنه لا أنساب بينهم، لا قيمة لاختلافات جوهرية، والأخطر أن الحقيقة لن تأتي، لأن لعنة التنكر ورثت جيلا عن جيل، وكل فصول التاريخ، أشبه بخروج من مرحلة الصفر، من أجل دخول مرحلة الصفر الأخرى.. وهكذا..

 

قصة ( في ليالي الهاوية )، صرخة بالغة الصدى، دونها قلم كاتب عبقري، يؤمن أن الأدب مهما كان غاية فهو أيضا وسيلة، وسيلة لفهم غموض العالم، وكشف الحجب عن سر اتصاف الأسئلة الوجودية والإجتماعية بأنها عالقة في حلق القبض على جوهر التواجد والتجمع لغايات شتى متداخلة، والتشابه السطحي البغيض، وكأن الغايات هي ما يحدد القيم، في نص سردي قصصي قصير استطاع الكاتب حميد محمد الهاشم أن يضع الإنسان أمام فراغ محتواه، وعبثية سيره، وقسوة انحيازه للظلام.

* للتنوير هذا مقتطف من قصة ( من ليالي الهاوية )

[ هكذا دخلوا الليلة العمياء، لا بصيرةَ في النوايا، والرغبات الطيبة صدئة، هل كان في خَلِدهم إن ليلتَهم ستكونُ أطول من ليلتهم، ربما كانوا ينتظرون فجرَ الحقيقةِ الذي لمْ يُبالوا بمجيئهِ، إذ بشعورٍ أو بلا شعورٍ أُسْتدِرجِوا إلى وادي الأقنعةِ، لكنهم انتعشوا أشدّ الانتعاشِ في ذلك الليلِ التنكري الأعمى والأزياء العمياء، كانوا فرحينَ وليس ثمةَ رغبة بالعودةِ، فلم يطرقْ أيٌّ منهم قلبَ الصالةِ الراقصةِ بأستفهامٍ فقير..”هل نحنٌ متنكرونَ حقاً؟!! ]

 

4 _ عين القمر ( مأساة الجمال المسلوب )

( الحرب الاحتلال، الوطن والحرية، حين نكتب عنهم، بأي لغة نفعل ذلك؟ وأي شخوص نختار لكي نقتفي آثارهم ومخلفات أحلامهم، عسانا نعود من عالم الحكي، وفتنة السرد بقلوب مؤمنة لا تلتبس عليها قيم الحق بمزاعم الباطل.. اللغة هنا لماحة، بعض تجلياتها مفاجأة مثل ألغام، يضعها الكاتب في خط سعي القارئ للإمساك بالمعنى، فيصدمه عبر اقتناص لقطات ومشاهد من زمن محاصر، وزمن أكثر تسييجا. ثم كان السارد المتكلم فتى في السادسة عشرة من عمره، أبوه مغيب في الأسر، وجده لا يملك إلا الدعاء. وتلك مشانق التجريم على مقاس الرغبة الحرة، مخطط لها قبل إقفال آفاق الوطن، ومحاصرة أنعمه. )

في هذه القصة تتزامن الوقائع الحقيقية برمزيتها، لتلبس الجمل السردية معناها ودلالاتها المضاعفة، فثمة زهرة عجيبة تسحر قلب الفتى، ومن أجلها يخوض مغامرته، تلك المغامرة التي تعرضه لتهمة التحول إلى لص، بينما غايته إنقاذ الجمال من قبضة القبح، وهو الذي عاش تجربة الانتقال من براءة الصبا، إلى عنف الرجولة مضافا لفكرة الشجاعة والإيمان بالحق ومكاسب الهوية المشروعة. والعدو الغاصب، جاء ومن خلفه ومعه ألف تهمة جاهزة لكي يسطو على ما ليس له، فيرمى صانع الجمال بتهمة صنع الدمار، ويقذف طالب الحق بتهمة الإرهاب. أما الزهرة رمز الجمال فلقد جاء وصفها بديعا شاهقا هكذا..

[ في ذلك البستان الصغير، الزهرة الكبيرة الصفراء.. المتلالئة صيفاً.. والعنيدة شتاء.. وكنجمة تشرق في النهار، وفي الليل يبرق لونها.. تويجات كبيرة صفراء عريضة، منقطة بنقاط سود، يحملها سويق أخضر لترتفع شامخة، تتسيد على عوائل الأزهار التي معها.. أحدنا أسماها الأم.. والآخر دلعها بالسيدة.. أما أنا فبعد صمت ثقيل اخترت لها، عين القمر، ]

5 _ لا وقت للحياة ( مأساة الفقد الأليمة )

ولأني عنيد أمام سلطة النمطية، سوف أبدأ بعرض آخر مشهد من مشاهد هذه القصة وتحديدا هي الفقرة الأخيرة:

[ أعود إلى ذاكرتي، صباي وهويتي، حيث أجد نفسي، لعلي أجد النهر وأجده قرب النهر ينتظرني. حقا كنت متهيئاً للقفز في موج الذكريات.. كما الذكريات. الآن مدينة أخرى، طرق ماتت، طرق ولدت، والأيام أيام أخرى. أسألُ مَن عن نهر لا أعرف متى وكيف اختفى تماماً هو الآخر. ]

( الحزن ، الضياع ، الشعور بالفقد، النهر وهو يفصل بين زمنين، يفصل بين الأمن والخوف، النضال والهروب، الفشل والنجاح، نهر الزمن، الذي يمتد ثلاثين عاما، ثم يختفي بعدها كل فهم كان لصيقا بقيمة الغد، مثلما تختفي معالم الماضي، ويختفي معها صديق الصبا، الذي ابتعله موج الغياب القسري.

بلغة مشبعة بالإيحاء والغوص في مشاعر سارد منهك التواجد، في القرب وفي البعد، حيث تعادل ثلاثين سنة من الغياب، كل معاني اللاشيء، لتكون حصيلة العمر ضياع محقق، حيث يعجز السارد عن استرجاع شبابه الضائع، ووجه صديقه الذي اختفى، كأنما غرق في نهر جارف من الغموض، متواريا بكل عناده وصدقه وجرأته، والأصعب أن بطل النص، عاجز عن معرفة مصير صديقه، حيث لا شيء لديه إلا الذكريات، حين كانت لجان الشيطان تلاحق فتيان المدارس وتتربص بهم، ثم لا يجد أمامه غير طرق ماتت، وفصول جوفاء، لم يعد بينها مكان مخصص للحياة )

 

في هذه القصة تحديدا، ولأني لم أشر خلال المقالة، لأهمية العناوين ودلالات تصدرها للنصوص، لاعتقادي أن الناقد ليس مطالبا بفك كل شفيرات النص، وتفتيتها إلى جزيئات هكذا، ما لم يصاحب عملية التفكيك بتحقيق نسبتها للخطاب الضمني، أو ما تقتضيه دراسة تقنيات وآليات وشكل الإبداع. بمعنى أن استخلاص القيم الفنية والرسالية في النص، هي المسوغ الأول لفكرة الخوض في دلالات الأنساق والقواعد والتقاليد الإبداعية. وإلا كان النقد مجرد تفكيك عبثي القصد.

ثم أعود وأقول، حين تفرغ من قراءة قصة ( لا وقت للحياة ) سوف تتأكد أن كل شيء في عوالم هذا النص الوثيقة الصارخة في وجه الظلم، والاحتجاج على فداحة العيش بروح سليبة، كل شيء موجود في هذه الحياة المشوهة، إلا الحياة نفسها. وعلى هذا المنوال يمكن قراءة عناوين باقي نصوص كاتبنا حميد محمد الهاشم. وكل نصوص كتاب العالم البارعين. الذين يعلموننا كيف نراجع صفحات سيرتنا، التي مهما اختلفت خلالها أحلامنا معشر البشر وتياعدت أمكنتنا، فإن جراحنا تبدو متشابهة. في أي زمن عرف تواجدنا. وذاك أن أحزان البشر تبدو في حال تأملها بصدق، تبدو واحدة، بينما أنواع الشبع والترف والطموح لا نهائية، يظل الجوع واحد، والسجن واحد، والموت واحد، والقهر واحد، والفقد والضياع والخوف والمرض والتيه والاندثار مجرد كعكة فاسدة وزعت بنظام عادل / جائر، على كل حزانى العالم، تعويضا عن فقدان عدالة توزيع الفرح وأشكال السعادة، مهرجانات الرقص والاحتفال مختلفة عن بعضها البعض، بينما أسرة مرضى العالم متشابهة، المقصلة واحدة وجوائز التكريم مختلفة، القصور بعضها يطاول بعض، وأكواخ الأرض لم تمنح بذخ اختيار نوع الخشب، والبرد اللاسع أهلها واحد، وتلك أنواع الدفء لا حصر لها. من أجل هذا كان الأدب واحد من أهم مساحة الهم المشترك بين شعوب الدنيا، ولسوف يبقى.. إلى أبد العصور.. هكذا.

 

وقبل أن أختم هذه المقالة، لا بد أن أشير، إلى القيمة الحقيقية لإبداع حميد محمد الهاشم، والتي أشرت إليها سالفا، وذلك عبر استخلاص ما أوصلتنا إليه قصة ( لا وقت للحياة ) تلك القصة التي لن تمكن قارئها من مفاتيحها العليا بسهولة، لكن مما لا شك فيه أنه سوف يتأكد بعد الخروج منها، أنها حركت فيه قلق وحرقة السؤال، وذلك في حال تدقيق ومساءلة مؤلمة، لنعرف مثلا متى كنا مذنبين فعلا؟ متى كنا على صواب؟ وهل تليق بنا صفة البطولة في موقف معين؟ مع تزامن تدبرنا لمشاعرنا، التي كانت السبب في صياغة وجهات نظرنا؟ فنتساءل أحيانا، هل يمكن اعتبار خوفنا حكمة؟ هل كان صمتنا جريمة؟ هل كان غيابنا خذلانا؟ أم أن إكراهات الظروف الصعبة التي حاصرتنا، هي من شوهت نقاء الكائن البشري فينا؟ وفرضت عليه الانسلاخ عن قيمنا المثالية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى