إعتقال الزمن

 توفيق كيروز – كاتب لبناني مقيم في كندا

“الحيّة التي لا تستطيع أن تغيّر جلدها تهلك، كذلك البشر الذين لا يقدرون أن يغيّروا آراءهم لا يعودون بشراً”. [نيتشيه]
__________

في مقدّمة كتابها “إعتقال لحظة هاربة” تقول غادة السمّان أنها استوحت العنوان من دعاية مرفوعة أمام محلّ للتصوير في النجف، كُتِب عليها: ” إن الحياة لحظات عابرة، إلتقِتْها بصورة”. إنّه لأمرٌ مميز كيف يستوحي الكاتب أو الشاعِر أفكاره أحياناً. إنماً، كي لا أطيل في الإستطراد، أعود إلى “إعتقال الزمن”.

لقد كان علم الخيمياء The Alchemy يسعى إلى إكتشاف مادتَين: الأولى تحوّل الأشياء إلى ذهب و الثانية تخوّل من يشربها أن يعيش إلى الأبد، و هذه المادة تدعى إكسير الحياة، Elixir of life. طبعاً، إلى جانب الظاهر الخرافي و الأسطوري للخيمياء هذه، تجدر الإشارة أنه لو قُدّر لنا فعلاً إختراع ” إكسير الحياة” هذا، لكان في مكنتنا توقيف الزمن فعلاً و اعتقاله.

معتنقو الأديان السماويّة التي تبشّر بوجود حياة بعد الموت، لن يكونوا طبعاً بحاجة لهذا الإكسير لأنهم لا يعتقدون أن الحياة تنتهي بالموت، بل تنتقل إلى حياةٍ أبديّة.

معتنقو الأديان غير السماويّة، التي تبشّر بالتقمّص، ليست بحاجة لهذا الإكسير على السواء، فهي تعتقِد أن الحياة لا تنتهي بالموت، بل تنتقل إلى جسد آخر لتعيش فيه.

معتنقو المذاهب العلميّة، و على رأسهم الداروينيّون، الذين يتبنّون نظريّة النشوء و الإرتقاء، التي ترى أن الإنسان، بعد أن تتوقّف وظائفه الجسديّة، يخمد و تتحلّل عناصره و لا يبقى منه إلّا ذكراه الطيّبة، هؤلاء بحاجة أكثر من غيرهم لهذا الإكسير، و لكن فكرهم المبني على التحليل العلمي و المنطقي و الواقعي لا يستطيع أن يميل إلى فكرة أسطوريّة من هذا النوع.

إنّما، و بعيداً عن مواقف هؤلاء من المسألة، هنالك رمزيّة معيّنة في قصّة الإكسير هذه، حيث نرى فيها رغبة الإنسان الدائمة في تحدّي أحكام الطبيعة و محاولة التغلّب عليها، أي محاولة تحدّي الزمن و التغلّب عليه و إيقافه و”اعتقاله”، كما و يفتح نافذة على مدى تفاؤل الإنسان و مدى طموحه و مدى حبّه للحياة و تعلّقه بها و رغبته في ديمومتها إلى الأبد، رغم كلّ صعوباتها و تقلّباتها و عثراتها.

نستغرِب هنا بعض حالات إستثنائيّة، حيث يلجأ قلّة قليلة من الناس إلى الإنتحار نتيجة لعذابات أو معانات ما، و فات هؤلاء أن جمال الحياة هو في مرارةِ السعي الدائم و التوق الدائم و الإصرار الدائم و الطموح الدائم و الأمل الدائم. لقد فاتهم أنّ الدمعة و الإبتسامة هما وجهان لعملةٍ واحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى