الغربيات الثلاث : “وهران و الغدائر و كريمة نايت ! “
هدى درويش/ الجزائر
منذ نهاية القرن التاسع عشر, منذ ذلك الفجر الضبابي عام 1895الذي حمل آر الرحيل الذي اختاره ’’جبران خليل جبران’’ من بشّري الفقيرة القابعة في متصرفية جبل لبنان الشمالي المحتل من طرف العثمانيين أنذاك و الذي حمل الى العالم انجيلا جديدا بعنوان ’’ النبيّ’’ ما أزف الوقت على ميلاده حتى 1923 و الذي صنع من ذلك الفتى النبيل كاتباً صاحب أكثر المبيعات بعد شكسبير و لاوزي , الى هذا المهجر الحديث , عالم المتاعب الساحر بالنسبة لكل افريقي يرحل عن مشرقه أو مغربه حاملا بين اضلاعه الكثير من الرميم و من يومها سوف يظل يقتات من تذكار مدينته و روحها مهما كانت فقيرة الجوف , حسناء الجبين , هذا المهجر الذي أصبح جزءًا حقيقيا من هوية الغرب بكل الاثنيات و الثقافات و الأديان و الطوائف و الأقليات , بكل ألوان الأحلام و الأمنيات التي تتزين بالحداثة و تواكب السنون التي تدرج بصماتها على حقب الزمن المتتالية … لم ينسلخ بعد عن’’ وعد الغريب’’ و يظل وفيّا للأغنية المهاجرة كوطن دافئ يجوز اختياره مع أنّ أوطاننا قديمة التكوين فينا تكون في الكثير من الاحيان جارحة و معتمة و عقيمة النسائم … على خطى طيور مهاجرة بلغتْ وجهتها بمواسم ثابتة و حملت أوطانها على مسارح الأصقاع البعيدة … من الجزائر أذكر الكثيرات : سعاد ماسي , لينا دوران, ماليا السعدي , زهيرة دارعبيد الشهيرة بزاهو , ناديا شافا , آمال زان , كنزا فرح ,آمال ابراهيم جلون, آسيا معوان و غيرهن … و كأنموذج حيّ , أعود مع راقصة الباليه , الفنانة الجزائرية المغتربة العالمية ’’ كريمة نايت عبد العزيز’’ التي كانت على واجهة اللائحة الرسمية للمهرجان الدولي للموسيقى بأوسلو 2012 ...
, مالي’’ sans dignité, , سلام , سؤال , داري , هوما I did’t know,جزائر ,laisse les say ’’الحراقة,
و غيرها من الروائع الوليدة على ركح المسرح السويدي الشهير الذي قدمت به جل أعمالها :
palladium malmö
و شاءت الأقدار أن نجتمع من جديد و تبوح لي و لرائدات.
من وهران الى العاصمة الى مصر الى باريس الى السويد … خط سير طويل, ترسمه الذاكرة على أرصفتها بأسلوب فلاش باك و كيف يمثل لكريمة النايت تلك المجموعة من حلقات متتالية تمد قدميها على خطوطه العريضة في ثنايا مرقصها …
تبتسم و تقول بصوت يتخلله الكثير من ايحاء الحنين : وهران بالنسبة لي مدينة الصبا , زمني البريء, وطنٌ قديم يوجعني قدر ما تغيّر كثيرا , حزمة أغنيات رددتها معي الحقول كأنشودة لعبة طفولية , عشتُ حياةً تشبه العادية و اعتدتُ على السفر كثيرا فأنا بنتُ كل المدائن التي قطنتُ بها بحكم عمل والدي أيضا ,بداياتي ,وقفتي الأولى على الخشبة كانت في ’’فراشة لن تطير أبدا ’’ لعلي العربي تنخي ’’ اقتباسا من رواية ’’ حفصة زيناي خوديل’’ 1997 , ذكرياتي بصفوف الكشافة الشبابية و المسرح البلدي و الكونسارفاتوار …أعشق أحجارها , طنفها الليلي , واجهة بحرها , آثارها , باب كانستيل و السانتون و المير
كريمة نايت أصبحتْ أيقونة متفردة, بداية من اول البوماتها ’’ ماذا بعد ؟! ’’ بدقة متناهية و صعبة التصميم … وقّعتِ لصوتك هذه الهوية الموسيقية …
الغناء بالنسبة لي هو حكاية عمرٍ كاملة و تجربة عملتُ على صقلها بسلاح وحيد اساسي هو الموهبة , الغناء و الرقص رسالة مفعمة بالإيمان بالمبادئ , بنظرتي الى الحياة , بالقضايا التي أدافع عنها و كان اختياري نابع من أهواء شخصية قبل كل شيء لكن الاحتراف صعب و ساندي في ذلك رجال عظماء منذ أن وضع حجر الأساس لحنجرتي وليدة اللقاءات و العمل المكثف مع ’’فريدريك جيل’’ , ’’مايكل أوغوستسن’’ , ’’ أندريه آنج’’ , ’’ خير الدين مجوبي’’ و من قبلهم ’’فتحي سلامة ’’ ’’وليد عوني’’ و ’’محمد شفيق’’ بمصر … تجربتي بفرقة ’’ شرقيات ’’ كانت تأشيرتي المباشرة للوصول الى جمهوري بالمشرق العربي .
هنالك سرّ ما في قوة اللحن و الكلمات , يجعلها تتماشى على ذات الايقاع مع مقاماتك الصوتية و نظرية الطاقة الهائلة التي تنبعث من كل رسالة و فحواها الأنثى و الثورة و الاغتراب و الوطن و الأمومة و الشهرة …
لا أعتبر نفسي شاعرة مع أنني كتبتُ الكثير من كلمات الأغاني التي أديتها في محافل دولية عبر العالم و لكن الحقيقة أنني لا أؤمن كثيرا ببرناسية الفن و ألتزم الى أقصى الحدود , عودتني الاسفار على انني تلك الغريبة التي أحملها بتفانٍ و لا أجرؤ أن أغادرها او تغادرني , كل الأشياء في حياتي تقاس بمقياس الأرض و الهوية و أعتبرها مصفاة حقيقية أفرق بها بين ما يناسبني و ما لا يناسبني لذلك أزن القناعات الثقيلة و اغنيها و أعطيها حجمها بالتوازي مع عمق الهدف .
’’المرأة الجزائرية’’ , ’’السفر’’ و’’ حياة الفنان’’ … كما تراها كريمة نايت ….
المرأة الجزائرية عالم من القوة و الجمال و الرهبة و العظمة و البارود , سيدة مواقفها و صاحبة قراراتها , حاضرة كانت و مازالت منذ عهد الثورة التحريرية الى العشرية السوداء و سنين الجمر الارهابية بالجزائر لكنها تظل في بعض الأماكن و الظروف غريبة كغديرة تحاول أن تطفو على سطح طوفان عارم …و عن السفر فهو بالنسبة لي في كلمة واحدة ’’ أسلوب حياة ’’ …اما عن ’’ حياة الفنان’’ فهي صعبة , نوع من الانفصام , حين نصعد مثلا على المسرح يجب أن نزرع في قلب المتلقي شيئا من الفرح , و يكون القلب كآلة تحسن العطاء مهما كانت حالتها الانسانية الحقيقية و الصعب أن يكون الفنان انسانا و هذا سرٌ أيضا, منابع الالهام , فرض الذات و الايمان بالقدرات, مواجهة الطابوهات
جديدكِ …
أعمل مع الفنان ’’ فتحي سلامة ’’ بعرفان كبير على اخراج أول ألبوماتي بنكهة مشرقية و هذا شهر يونيو|جويلية القادم و نحاول ان يكون الافتتاح بدار الأوبرا بالقاهرة و هو عمل يختلف كثيرا عن كل ما قدمته بثنائية اللغة و التوابل الغربية , ما نعمل على روتوشاته الأخيرة هو عودة الى كلاسيكية المغنى و الجمع بين قطبيين عربيين , جمالية الوطن أمام المنفى , تحولات عميقة نحو جذرية الأطروحة بالنسبة للأغنية العربية …. بعيدا عن هذا الفن المشوه الذي يستفحل على الساحة العربية و الذي نسميه استحقاقا
’’ فن التيك آواي’’الذي يؤخذ كلمجة سريعة و سرعان ما ينسى لكنه مع الأسف الأكثر استهلاكا لبعد النخبة عن فكر المتلقي و التطهير و التصدي لذلك مهمتنا جميعا… أن نبتعد عن هذا الفقر الثقافي المكّرس بإحياء مدارسنا المتأصلة , نحاول العودة بذكاء الى زمن النور!