قصة أبغض الحلال بقلم سوسن نهائلي

أبغض الحلال

مقدمة

كثيرة هي عثراتنا في الحياة، تجعلنا نميل لكن لانسقط، أقدارنا مخطوطة بقلم متين، لكننا نملك القدرة على تغيير اللون، اِصنع لنفسك الطريق الصحيح، مهما بلغت عثراتك وخيباتك، اِصنع منها حصنا وجسرا لبلوغ مقاصدك، الحياة مرة وليست مرتين.

إهداء

إلى روحي المُحلِّقة في سحابة الأمل..

إلى مجد عطائي في سبيل القلم..

إلى الصدمات التي جعلتني أقوى على الحياة..

 

وبعد مرور سنتين من الإنتظار، ها أنا الآن أُزف اليه عروس بطلتها الجميلة أرى دهشة أهلي في عيونهم ودموع فرحتهم ببهائي، تُنثر على وجهي التهاني والتباريك، لكن لما أنا لا أستشعر بهجة، كأني اُزفُ الى نهايتي، لا فرحة تستوطن قلبي ولا بريق في عيني، ملامح وجهي بائسة، وخطواتي استحوذها كَسَح،

تلك الطبول و الأهازيج مزعجة ماهذا!؟ صُداع قد رَكَن رأسي، ضحكاتهم كأنها أصوات وساويس، ذاك الهرج يهُز هدوئي، اصمتوا !! أنا أريد أن أغفو طويلا منهكة، مرهقة لاقدرة لي على  النهوض.

أتأمل نفسي في المرآة، صدى صوتي يخرج منها يحاكي نبرة أسى، ليس يوم زفافي وسعادتي، لقد رُسِم طريق لجنازتي الثالث عشر من شهر نوفمبر استخرَجتُ فيه شهادة وفاتي…

تَمَّت مَراسِم عزائي بنجاح، الآن يَحِق لي أن اهنيء نفسي بمماتي كل شيء من حولي غامض، قد اردكت نهايتي وانا لازلت في أولى خطوة بدايتي، كل المؤشرات التي مرت أمامي مهدت لي طريق انكساري مستقبلا، حينها أدركت تماما أني سأدفع فاتورة ثمنها غالي، لطالما آمنت بفكرة أن البدايات هي من تحدد الإستمرارية او تَشُق طريق النهايات.

وفي تلك اللحظة سكت العالم كله من حولي، لم أعد قادرة على النظر سوى لوجه أمي بملامحي العابسة، عيناي ترسل إشارات أعلم أنك فككتي الشيفرة وأدركتي كم انا بائسة في هذا اليوم، لكن قد فات الأوان، هيئم لي بيئة تتماشى مع معتقداتكم وأفكاركم، كم ناديت حرورني من عقدة محيطكم لقد ولدت لتحقيق ذواتي ولم أُخلق لإرضاء الغير، فأنا أعلم أني أسعى نحو هدفي النبيل يسمو فيه إسمي ليكون فخرا لكم، لكن لاحياة لمن ناديت، بسبب تقاليد منطقتنا وأفكار المجتمع البائس الذي ولدت فيه وآثاره اللعينة، كلمة “لا” في قاموس عائلتي غير مذكورة، معاناتي كانت واضحة لم يكن أبدا إختياري  واصروا على أن يكون قراري.

ها قد حلَّ الصباح ولم يستقر في ذهني سوى فكرة واحدة، سأقف عند المرآة وأرى أين ضيَّعتُ براءتي!؟، هرولتُ مسرعة نحوها ولم أرى ذاتي لاشيء يعكسني، فتحت باب الخزانة علَّني أراها من الخلف أو قد تكون خائفة، لكن لم أجد سوى فوهة خاوية حينها أدركت أنني قد فقدتها.

تمُر الأيام الخوالي  ولم اتلقى سوى المعاملة البائسة، كانت جل محاولاتي  التقرب والتودد، الآن هو زوجي وكما علمتني أمي أن الزوج هو السند ورضاه من رضا الله، وكنت كلما جلست جانبه وحدثته عن طموحاتي و أُمنياتي، وأنه الآن داعمي  وسندي  وشريكي في كل ممرات حياتي يرد بكل سخرية واستهزاء، من تظنين نفسك؟! لقد حققتي مايكفيك لتكوني ربة بيت  تلبي احتياجاتي ومتطلباتي وفقط  ولا كلمة لك فوق كلامي، شهادتك الجامعية تلك ماهي إلا دليل على انك متعلمة، لايوجد في عالمي إمرأة تطمح وتنجح، أُمنياتك هاته اركني لها زاوية في عقلك ودعيها  تكون ضمن الأطلال.

في تلك اللحظة شعرت أنني  جارية مستعبدة، أعيش عصر الجاهليين في القرن الواحد والعشرين من عام ألفين وخمسة عشر، وفي برهة انشلَّ لساني  وتجمَّد كياني، ولم اذكر حينها الا كلامي مع نفسي في المرآة وتمتمتُ بداخلي، ألم أقل قبل هذا أنني شَهدتُ على مماتي!!؟

تتشابك الأحداث ويزداد الوضع سوءا وتكشف الأيام نواياه الخبيثة تصرفاته وأفعاله كلها تـُجسِد الشَّر الذي يُخَيِّم روحه، جاء اليوم الذي انعكست فيه مرآة شره بإتجاهي، يحوم حولي كالغراب بصوته النشاز صارخا :”زواجنا ماكان الا مراسم شكلية بين أهلي وأهلك، تزوجتك رِهان فقط، كنتي مَحَط إعجاب أحد الأشخاص الذين أعرفهم، كان بيننا شحناء وبغضاء، وعلمت أنه معجب بك وفي نيته التقدم لخطبتك، وقتها أعلنتُ حربا داخلية بيني وبينه أنه لن يَنعمَ بك لحظة”

الآن وُجِهَت ضربة مُميتة لكياني كالرعد المدَوي هزَّ بدني مُدمرة لذاتي، صاعقة حلَّت بجسدي أسقطتني أرضا مدركة أنني ادفع ثمن قرار ليس قراري.

مرَّ شهر ونصف على زواجنا  وتتوالى الأحداث الصادمة، أرى نفسي تنهار يوما بعد يوم ملامح وجهي  شبَّتْ فيها علامات الكِبر قبل أوانها، سهراته الليلية المتأخرة  مع شلة السوء وفعل الرذائل، وأكله مال الحرام، وطباعه الفظَّة كل هذا كان مكنون بداخلي معاناتي كانت سر مشترك مع مرآتي، وبالرغم كل هذا تحليت بالقوة والصبر والثبات ظنا مني أنني ربما سأُغير من طباعه ونفسه ومن فساده، الا ان كل محاولاتي كانت تنعكس أكثر ضررا نحوي، ويزداد الوضع سوءا كلما طالبت بحقوقي وإحتياجاتي المادية والمعنوية، اللامبالات والإهمال زعزع أماني الداخلي وكسرني بقوة، أضحى الخوف يسكُنني من كل تصرفاته فقد بدأت تظهر عليه أعراض اظطرابات نفسية غير طبيعية، أتذكر في وقت ما بينما أنا جالسة أشاهد التلفاز، اذ بشيء يسحبني ارضا واِنْهار ضربا بدون أسباب او سابق إنذار، هزَّني بقوة ولم أعد أشعر بشيء حينها فقدت الوعي ولم أدرك ما حلَّ بي.

بعدها صحوتُ على صوت أخته وهي تناديني استيقظي، استيقظي…

وسرعان ما فتحتُ عيناي للوهلة الأولى اجهشتُ بالبكاء ثم بكيت بحُرقة ومرارة كانت كل دمعة تسقط مني أشعُر وكأنها حِمم بركانية ثائرة تشُق طريقها تُحرق خدي وتـُحطم قلبي مُخلفة  دمار كارثي لذاتي، وكعادتي أُخفي كل آلامي بداخلي.

بعد مرور سبعة أيام يتعرض أخي لحادث خطير يدخله الى المشفى سريعا لغرفة العمليات، تخبرني أمي بذلك لم أستطع الانتظار والتحمل، طلبت منه في آخر النهار ان يأخذني الى بيت اهلي، في باديء الأمر لم يقل شيئا وبعد.خروجه لدقائق وعودته وقف أمامي قائلا:

“ان أدرتي الذهاب لكي ما تشائين لكن إعلمي أنه لا رجعة لكي هنا، وإن أردتي البقاء لا تعيد قول كلمة أهلي مرة أخرى”، في تلك اللحظة ولأول مرة اقف بقوة مرددة :”أريد الذهاب لبيت أهلي”، حينها لم أُخمِن في ردة فعله أمامي .

الآن انا امام بيت أهلي قرعتُ الباب وإذ بأمي هي من إستقبلتني، كان اول مافعلته إرتميت الى حظنها وضممتها بقوة وشوق، كم إشتقت لأبي والى إخوتي، الى كتبي و غرفتي وهدوء المكان، كأنني سجين  وتحرر، بعد بضع ساعات تسألني أمي كيف هي احوالك هناك؟ لم أرد عليها إلا بكلمة واحدة أنا بخير، لكنها كانت تعيد في كل مرة وتسألني لما أنتي شاحبة اللون هكذا؟! حتى جسمك اصبح نحيلا!! أسألتُها كان يتبعها علامات الإستغراب والدهشة من حالي، كنتُ اتجاهلها بكل الطرق وأهرب من نظراتها لي.

مرت أيام طِوال وانا في بيت أهلي لم يرن هاتفي ولو لمرة، انشغل فكري وبدأت أخمن تخمينات سلبية في الحقيقة انتظرت اتصاله ليسألني عن حالي اخي، لكنه لم يفعل،الوضع بدأ يقلقني وبشدة فحاولت الإتصال به لأجد ان هاتفه مغلق، حاولت مرارا وتكرارا لكن دون جدوى، قررت الإتصال بوالدته للإطمئنان عن الوضع، وعندما ردت على إتصالي وصارحتها بما يجوب في ذهني من استيائي فكان جوابها بكل برود: لما القلق  هو بخير وإن لم يسأل عنك فلستي بالشارع، انتي بين اهلك، لم أفهم تلميحاتها حينها، ولكني وضعت إحتمال أن يكون هو من اوصاها بقول هذا.

كانت أمي في كل مرة تسألني ألم يتصل بك زوجك لحد الآن ؟! وفي كل مرة كنت اتحجج بأعذار فقط لأتفادى استغرابها من الوضع،وفي كل يوم أحاول الاتصال مجدادا  وإرسال الرسائل : أين انت ؟ عساه خيرا لما هاتفك مغلق دائما؟، بعد مرور أربعة أيام إتصل بي حاولت ان أفهم لما يفعل هذا بي، سكت لعدة ثواني ثم إسْتَطرَد قائلا:

ليس لديك الآن مكان لآتي وآخُذكي اليه ثم أقفل الهاتف في وجهي مسرعا، اعدتُ الاتصال مجدادا  إذ بالهاتف مغلق مرة أخرى، التزمت الصمت والهدوء لأيام  وتحليتُ بالثبات  أعدت الاتصال مرات ومرات لكن دائما ماكان يشير التسجيل ان هاتف مراسلكم مغلق، الآن طفح الكيل ولم أستطع على الكتمان والتحمل اكثر، أندفعت مني الدموع فيَّاضة كالواد الهائج مع صوت صُراخ باذخ مرددة قول : “يااا الله تعبت، تعبت”.

تسمع أمي صُراخي لتأتي مسرعة مرتعبة من حالتي التي رأتني  فيها،واذ في ثواني وبلمح البصر أُفرغ كل مافي جعبتي من أسى ومعاناة، سرعان ما أمي تتصل بأبي ليأتي هو أيضا في تيهة من أمره، حاول أبي العثور عليه في كل مكان فقد إختفى عن الأنظار لمدة، وظل الحال مُخيم علينا هكذا لمدة خمسة أيام ولم يجد له أمارة، حتى أن والده قد استغرب من فعله الشنيع هذا.

يمر شهر آخر وانا اعاني في صمت وفي ليلة إستجمعت قوايا ووقفت أمام عائلتي مرددة : أريد الطلاق.

في الوهلة الأولى كان الإستغراب والدهشة مخيمة على ملامحهم لم يتقبلوا الأمر، وبدأت كلمات اللوم والعتاب ترمى بإتجاهي، اصابع الاتهام  الموخزة كالأشواك  بسبب صمتي وسكوتي من البداية.

الآن أذكركم انكم انتم من  ارغمتموني على تقبل الوضع، كنت أشكوا لكم عدم توافقي معه اننا مختلفان ولا يوجد ادنى ذرة تفاهم بيننا، الستم من قلتم ان الرجل قبل وبعد الزواج سيتغير، لعبتم بعقلي فقد كنت صغيرة فتاة لم تتجاوز الواحد والعشرين من العمر، وانا الآن أدركت كل هذا متأخرة.

ظلّ الوضع الذي أُسرتُ فيه وأُجبرتُ ان أعيشة للكَرَّة الثانية تحت ضغوط العائلة والمجتمع، هذه المرة فكرة مطلقة لم ترضي عائلتي، لأن المجتمع لايراها إلا إمرأة فاشلة، لم تعرف كيف تُسيِّر أمور حياتها الزوجية، فكل شيء مرهون على المرأة وحدها ولاثقافة لهم بأن الرجل هو عِمادها ومصدر استقامتها او اعوِجاجُها، وان الحياة لم تُبنى على المرأة وحدها إنما مع شريك وسند يتقسامان الحياة معا بِحلوِها ومُرها.

الضغوط التي مرَّت بي من كل الجِهات أدخلتني في نكسة صحية قوية، أثرت على العامل النفسي لي، مرضت مرضا شديدا جعلني طريحة الفراش لمدة سنة كاملة، لم ينفع معي دواء الطبيب ولا دواء الطب البديل، وبدأت تنتابني علامات اظطرابات نفسية كالرُهاب والبكاء الشديد والصراخ في منتصف الليل، العزلة والانطواء والاكتئاب اهتزت ثقتي بنفسي وأضحت تُراودني افكار سلبية مصيرية لحياتي، دُقَ ناقوس الخطر على حياتي وأمر زوجي نُسي تماما لأن أهلي إنشغلوا بوضعي الصحي المتدهور.

وفي أحد الليالي جلس والدي بجانبي و افتتح كلامه بقوله :”ان شُفيتي سريعا وشَدَدتي الهِمة سنقوم سريعا بإجراءات الطلاق، وستكملين دراستك لنيل شهادة الماستر ثم سأرى ابنتي دكتورة بإذن الله، أبهرني أبي حينها أحسست ببهجة وسعادة كبيرة، أهلي يعلمون جيدا ماكنت أريده من قبل خاصة أنني كنت متفوقة في دراستي، سماعي لتلك الكلمات من والدي كانت الدواء والبلسم لروحي المرهقة منذ سنين، جعلتني اتشجع لأنهض وأُنهي هذا الكابوس الذي إلتَهم سنوات من حياتي.

تمت اجراءات رفع دعوة الطلاق، بدأت أحس بنوع من المُعافاة رغم بعض الآثار النفسية التي ظلَّت بقاياها راسخة في ذاتي ولازمتني حتى في أوقات إكمال دراستي.

حُدِدَت مواعيد إجراء الجلسات في المحكمة لكن في كل مرة كان يتعمد الغياب ليُؤجل في كل مرة الحكم بالطلاق، وتمر سنة كاملة سنة أخرى من الأوجاع والصعوبات وفي الوقت نفسه كنت اُشجع نفسي لأتعافى من أوجاعي.

رسمتُ في ذهني طريق  لتحقيق أهدافي وبلوغ أسمى اُمنياتي، بدأت بِطَيْ الأحزان ورميت كل مخاوفي   واستبدلتُ  ثوب الألم  بثوب الأمل، بدأت كأول خطوة الرجوع للقراءة والكتابة، القراءة غيرتني كثيرا وكل ماكان دامس

في جوفي أزاحته، انبزغت شمس أيامي التي خُيم عليها الظلام من وقت طويل، أدركتُ حتى  وإن كان لون الأسود جميل فإن الابيض أجمل منه وإنَّ لون السماء الرمادي مُبهج لكن في صفاء زُرقتها تأخذ أبهى حُلَى.

تفوقت في عامي الأول من الدراسة بالرغم من المتاعب التي واجهتني، وفي اليوم الثامن عشر من شهر مارس في عام الفين وثمانية عشر صدر القرار بالطلاق، تزامت الفرحة مع إقتراب موعد تخرجي من العام الثاني، كان  انتظاري للخبر حينها مثل انتظاري السجين لصدور القرار بالإفراج عنه ونيل الحرية،  كومة المعاناة التي كانت بداخلي قد توارت، ومنذ ذلك الوقت وانا أسعى لتطوير نفسي وبناء أعمدة لمستقبل زاهر  وتحقيق النجاح، الآن انا في صدد اجتياز مسابقة الدكتوراه حقا، وجَهتُ كل مخاوفي وانكساراتي نحو مجال الكتابة، فهي الآن رفيقي ودوائي الشافي لكل آلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى