الأديب والناقد محمد الطايع
قراءة تحليلية ، لمتن قصة قصيرة ، بعنوان .. ( رسالة الهدهد ) للأديبة و الناقدة الدكتورة : كريمة رحالي ..
للمرة الثالثة على التوالي ، اجدني شغوفا هذا العام بقراءة نص سردي ، من جنس القصة القصيرة ، وليس في الامر اي تخطيط ، فكل المسألة انك تصادف نصا يستفزك فتستجيب لداع الابحار فيه ، محاولا ان تقرب بعض معانيه من القراء ما أمكن ..
من المسلمات الأدبية ، ان جنس القصة القصيرة ، شأنه شأن الرواية يناسب بطبيعته شتى الموضوعات ، الاجتماعية والفلسفية والفكرية والسياسية والتاريخية والواقعية التي تستمد مادتها الحكائية من واقع المعيش ،
وهنا ونحن نلاحق خفايا نص ( رسالة الهدهد ) سنجد انفسنا امام احداث قصة بالغة التشويق ، تتسم بالانسيابية في اللغة والاسلوب ، و تعتمد على صوت سارد واحد ، يحكي بضمير الانثى المتكلمة ، عن علاقة جدلية ، غامضة ملتبسة مع طائر الهدهد ، هذه العلاقة التي ستسافر بنا بين الذاتي و الموضوعي ، وتضعنا مباشرة امام الاسئلة العميقة المؤجلة ، والتي تضمنت رسائل واشارات ، اعتمدت تقنية الرمز والتلميح ، وكل هذا لكي تحرك فينا عمق المعاني التي تعودنا ان نعاملها بفكرة التفويت ، خاصة ما يتعلق منها بضرورة تدبر المعرفة ، وتفعيل التجربة ، اية تجربة انسانية من حالها وهي بعد حبيسة الرؤى والافتراض والتخييل والتكهن ، الى حالة المعايشة الحقيقية ، من اجل اخضاعها لقوانين الواقع ، لنرى مدى مواءمتها لما نحن مؤهلين له ، سواء كنا على استعداد ام لم نكن كذلك ، لانه وعلى مايبدو ، سيظل الطرح المحوري الذي يحمله هذا النص وبعمق ، هو نفسه السؤال الملح ، حول ضرورة تفرغنا وانتباهنا ، من أجل ان نكون مستعدين ولو مرة في العمر ، للنظر الى المسألة بوعي خالص ، بعيدا عن الكسل والتهاون ، وانتظار تلك الفرص السحرية التي لاتتحقق مهما رغبنا فيها ، لانها في النهاية ليست سوى نتيجة اصرارنا الضروري على ان نجعلها حقيقة ، ونوليها ما تستحق من اهتمام ..
من الأكيد أن للثقافة العبرية الكثير مما يمكنها ان تقوله عن طائر الهدهد ، لارتباط هذا الطائر بقصة نبي الله سليمان ، والذي هو أحد أنبياء بني إسرائيل ، وملوكهم ، لكننا نعلم مدى اختلافهم فيه ، وفي نبوءته واتهام بعضهم له بأنه ساحر ، وقد برأه الله عز وجل في القرآن الكريم من هذا الإفك ، ثم تأتي من بعدها باقي الثقافات الاخرى كالفرنسية والانجليزية والفارسية والتي حدث ان وسمته بسمة الملك مسقطة عنه صفة النبوءة ، فقيل انه الملك سليمان ، او حتى سليمان الحكيم ، بينما نعرف نحن معشر المسلمين أنه نبي مرسل وهذا أمر لاجدال فيه ، لذلك تجدنا و نحن نقرأ أي نص أدبي مكتوب باللغة العربية شعرا كان أم سردا حكائيا ، ثم نصادف فيه اشارة الى طائر الهدهد ، لابد أن نفكر مباشرة بأننا أمام تناص قرآني صريح ، أما إذا تابعنا القراءة وتأكدنا أنه لاعلاقة بين المكتوب وبين زعمنا هذا ، فإنه لابد وان يكون النص قد تضمن نوعا من النفي على مستويين نفي قاطع او نفي مضمر ، وفي كلا الحالتين لن يتبقى لنا شك بان الهدهد ، ليس سوى طائرا ، شأنه شأن باقي الطيور ، مثل الحمامة والغراب والعندليب والديك ، وهذا النفي قد يكون مباشرا او غير مباشر ، اذ يكفي ان يتضمن النص السردي مثلا قصة تحكي عن هدهد ، لايجسد دور الرسول حامل الاخبار ، لكي نقر بانه لاعلاقة بينه وبين هدهد سليمان ، وهذا الامر شخصيا لم اصادفه بعد في اية قصة او قصيدة عربية قراتها حتى الان ، ليبقى اسم الهدهد محصورا في الحكاية السالفة الذكر ..
وفي قصة ( رسالة الهدهد ) للكاتبة كريمة رحالي ، ورد إقرار فصيح بهذه النسبة ، وذلك عند قول الكاتبة على لسان الساردة او الرواي في مقدمة النص : فإذا بي أسمع همسا مجهولا يقول لي : “خذيها فهي لك و من خير رسول “،
وهنا تكفي هذه الاشارة الى كون الهدهد خير رسول ، لكي تلحق القصة الجديدة بالقصة السابقة ، لان علماء الطبيعة وعلماء التفسير والحديث ، اتفقوا بان طائر الهدهد هو الاصلح لهذه المهمة ، لصبره وفرادته وحدة ذكائه ، وسرعة تنقله ..
وانا اورد هذه الجملة ، اكون فعلا قد اوجدت لنفسي المصوغ الادبي والموضوعي ، لكي أشرع في تقريب المسافة بين هدهد نبي الله سليمان ، وهدهد الكاتبة كريمة رحالي ، ونحن نتأمل القصة التي اخبرنا بها رب العزة والجلال ، عن هدهد نبيه سليمان ، نعرف انها جاءت على مراحل ، المرحلة الاولى ، وتبدأ عند تغيب الهدهد عن مجلس النبي الملك ، وكيف لاحظ سليمان عليه السلام غياب الطائر عن مجلسه ، فتوعده غائبا ، وحين حضر الهدهد ، حضر ومعه برهان غيابه ، وكيف جاء يحمل خبر ملكة سبأ وقومها ، مما اوجد له مبررا ، فكان ان كلفه نبي الله ، أن يحمل كتابه الى الملكة بلقيس ، وتلك هي المرحلة الثانية فيما يخص قصة الهدهد ، اما بقية الوقائع فهي بالطبع تخص سليمان والملكة بلقيس ..
ومن بعد تدبرنا للمرحلتين ، نخرج بالملاحظات الاتية :
– ليس للهدهد اسم معين ، وهذا يعني انه كان مختارا من بين بني جنسه ، والا وجب تعيينه بصفة اخرى مضافة كالاسم مثلا او المهمة الادارية التي يشغلها في مجلس النبي ..
– وحده نبي الله سليمان من كانت لديه القدرة على مخاطبة الحيوانات ، ولهذا وردت القصة في سورة ( النمل ) للتأكيد على هذا الموضوع ، وذلك عند ذكر الله تعالى لقصة النملة التي تبسم سليمان من قولها ، لذلك فالظاهر ان باقي الحضور ، لم تكن لديهم القدرة على فهم مايدور من لغة التخاطب بين نبي الله وبين الطائر ، الا ما باح لهم به بعد ذلك ، فاذا ما نظرنا للمشهد من زواية احد الحاضرين في المجلس ، فلسوف نرى ، ايماءات لاقبل لنا بتفسيرها ، لذلك لن يغيب لحظة عنا ، بان بطل المشهد هو نبي الله سليمان وليس الطائر ..
مثل هذه الملاحظات يتم الوصول اليها عند قراءة نص الايات الكريمات ، لانها تمتاز بقمة الاختصار ، والدقة ، حتى ان عددا كبيرا من الدارسين اتفقوا ان ذلك الاسلوب القرآني المختصر جدا ، جعل الصورة تبدو اوضح ، مما يجعلك تشعر كانك هناك بينهم وانت تقرأ الآيات الكريمات ،
– للاشارة فقط انا اورد هذه الاستنتاجات لانها ذات صلة وثيقة بالنص القصصي الذي نتدبره الان ، ولذلك اعتمد الاختصار ، حتى لانبتعد عن موضوعنا الرئيسي ، لان غايتي ليست سرد وقائع القصة الاصلية ، وانما فقط أن آخذ منها ما يناسب النص محل القراءة .. اما ولانه من الوارد الان ان من يتتبع جملي هذه قد يسأل كيف ذلك ، فالجواب بسيط جدا وهو كالتالي :
– أولا – ضرورة تسليم القارىء ، بان هدهد القصة القصيرة التي بين ايدينا ، هو نسخة من هدهد النبي سليمان ، لكن بلغة المجاز ، وليس التأكيد الفعلي ،
– ثانيا – الراوي ، يكلم الهدهد ، كما هو شأن نبي الله سليمان ، مع فارق بسيط ، في القصة الاصلية النبي يكلم الطائر لأنه يعرف لغته فعليا ، وفي القصة الثانية الرواي يكلم الطائر لانهما يتكلمان لغة واحدة هي لغة النص الفانتازية التي استعملت كنوع من تكسير حواجز التخاطب الفعلي ، من اجل الخروج بمعنى جديد يختلف عن المعنى الاول ، غاية وخطابا ..
– ثالثا – قصة ( رسالة الهدهد ) مكتوبة بلغة بالغة الايجاز والاختصار ،
– رابعا – الهدهد في قصتنا القصيرة ، جاء يحمل رسالة ، لنجد انفسنا امام مشهد يحاكي ، المرحلة الثانية من قصة نبي الله سليمان ، كما قمت بتقسيمها ، وليست المرحلة الاولى .. ففي المرحلة الثانية يؤدي الطائر واجبه ويحمل الكتاب ثم يليقه الى ملكة سبأ ، وهذا ماحدث في قصة ( رسالة الهدهد ) ليبقى السؤال العالق حتى الان ، من ارسل الرسالة ، من كلف الهدهد في قصتنا بحمل الرسالة الى الساردة ..
والآن وبعد هذه السلسلة من التعريفات الضرورية للربط بين القصتين ، وابراز اهمية طائر الهدهد ، وماذا تعني الكاتبة بادراجها له في عنوان القصة ، نغوص في متن النص ، لننتقل الى نوع من الاستقلالية ، عن قصة نبي الله سليمان ، وندخل في عالم بطلة نص قصة رسالة الهدهد ، للكاتبة كريمة رحالي التي تحدثنا عن نفسها فتقول :
( انشغلت مع ظروف الحياة المتلونة، تارة تداعبني ببياضها وتارة تصفعني بسوادها لتلهيني في مهمة البحث عن نقطة نور أغير بها قتامتها، وتارة تجبرني على ممارسة طقوسها المملة وتحمل لياليها البطاء. )
لقد انشغلت البطلة بحياتها الخاصة عن الرسالة التي حملها اليها الهدهد ..
مثل هذه الجمل الذكية ، هي مايرفع اللوم عن الكاتبة ، اذ لو صح انها تريد اخبارنا عن واقعة عجائبية ، وان طائرا دق على زجاج النافذة ، والقى الى بطلة النص برسالة ، لما امكنها الا ان تندهش تمام الدهشة ، وتصبح مثل هذه الواقعة شغلها الشاغل ، لكن ان تعامل الرسالة بلامبالاة ، فان مانفهمه من النص ، ان القصة ليست كما قد يخيل الينا انها مجسدة حرفيا ، وان المسألة كلها محض تخيل ، لكن ليس في النص مايدل على انها كذلك ، واذن لم يتبق لدينا الا تفسير واحد ، الهدهد نفسه ليس سوى فكرة ..
ثم تعود الفكرة من بعد الانشغال عنها لتطرح نفسها من جديد ، وذلك عند قول الكاتبة :
( عاد أبو الأخبار ينقر على زجاج نافذة الشرفة ، هذه المرة لم يسلمني شيئا بل ذكرني بنظراته المعاتبة للامبالاتي مدركا بانني لم ار الصورة ، خجلت منه لانني لم اهتم …. طار من جديد واتجهت نحو مكتبي لأهتم هذه المرة، فتحت الدرج اخرحت الصورة وتأملت فيها لأجد بها مفتاحا أنيقا )
فكرة الهدهد ، واحدة من اثنتين ، اما انها فكرة يصعب تحديدها او تجسيدها او حتى الحديث عنها او استيعابها ، لذلك اهتدت الكاتبة لحيلة إلباس شكل الهدهد عليها ، او انها فكرة تنطلق فعلا من تصور خيالي ، لطائر الهدهد ، ثم تاتي من بعد ذلك مرحلة تداعي الافكار المصاحبة لها .. وفي الحالتين معا ، ستكون النتيجة واحدة ، ألا وهي الاشارة الى صعوبة التعامل مع الأفكار التي تحتاج منا مجهودا مضاعفا لتحليلها ، لتفصليها ، لتاويلها ، للاستفاذة منها ، والسبب دائما هو عدم ايجاد الوقت المناسب لذلك ، تحت ضغط اكراهات الحياة اليومية ..
لأن الساردة تخبرنا هذه المرة بانها قررت فعلا ان تعرف ماهية الرسالة ، فقد شرعت في توصيفها فعلا وفك رموزها ، وتقريبها من الافهام .. و بعدما نعلم ان الرسالة تتضمن صورة والصورة تجسد مفتاحا تصفه الكاتبة قائلة :
( وكانه ذاك الذي تفتح به علب مجوهرات الأميرات ، بل الذي تفتح به أبواب القصور البهية ، بل ذاك الذي يحتفظ به كل فلسطيني من ايام النكبة آملا في العودة وفتح اراضيه من جديد ، بل الذي تفتح به الاعين العمياء ، و الاذن الصماء ، والقلوب الجوفاء…)
انه مفتاح متعدد الاغراض ، من حيث الشكل والصفة والمهمة والمرونة والتشبيه والمهام الحسية والادراكية المادية والمعنوية .. اي مفتاح هذا ياترى ؟ لكن للاسف وإن تعودت رؤيته مرارا ، فانها ظلت عاجزة عن فهم طريقة استعماله ، فهو ليس سوى صورة ، والصورة القت في نفسها امنية استخدامه .. لحل شيء ما مغلق ، وفتح كل مأسور ، او قلب مكسور ، و عقل عقيم ، فما الذي يتمتع بكل هذه القوة الخارقة ، حتى ان بامكانه ان يفتح عقلا قليل الفهم والادراك .. ؟! هذا ولن نغفل تلك الاشارة المهمة الى أهل فلسطين الذين يحتفظون بمفاتيح العودة ، وهنا تتأكد مرة اخرى علاقة هدهد القصة القصيرة بهدهد نبي الله سليمان ، الذي كانت فلسطين عاصمة ملكه أيامها ..
( تعودت ان ارى صورة المفتاح كل مرة في اليوم لتتعداها إلى مرات وتمنيت لو امسك به واحل كل شيء مغلق و افتح باب كل مأسور وقلب كل مكسور وعقل كل عقيم……) ثم نواصل القراءة ، فيما يشبه فقرات سردية تروم تأكيد تكرر الاحداث الغامضة التي تجسد علاقة الراوية بالطائر والرسالة ، ثم تلوح بوادر الانفراج القصصي السردي ، عند قول الكاتبة :
( ظللنا اياما في حواراتنا الفلسفية والتاريخية والعاطفية…. لم نمل منها ورغم ذلك لم أوفق في معرفة قصد الهدهد من رسالته …)
الحوار بين البطلة والهدهد كان فلسفيا ، وتاريخيا ، وعاطفيا ، الساردة لم تشعر بالملل ، لكن رغم ذلك لم تهتد للغاية من رسالة الهدهد ..
الان وعند هذه النقطة تحديدا ، اعتقد انه قد بدات تتضح الغاية من النص والهدف من القصة ، و زال بعض اللبس فيما يخص علاقة الشخصية الرئيسية بالهدهد ، و الرمزية التي يأخذنا اليها هذا التصاعد الدرامي ، في تقديري وحسب اعتقادي الشخصي ، انه اولا العلم ، العلم بمفهومه العام ، وبما يندرج تحته بعد ذلك من معاني شديدة الارتباط بنا ، وجدانيا و اخلاقيا وتاريخيا ، فهو وحده القادر على منح شرعية عودة الفلسطينيبن لارضهم ، وهو القادر على فك المأسور وتنوير العقول ، لكن هذه نفسها ليست سوى فرضية ، هذا ولان الرسالة حملها هدهد قادم من قصة نبي الله سليمان الملك العادل الحكيم ، فهو لابد علم ذو علاقة مباشرة ، بشريعة الاسلام ، وهدف التوحيد ، والعدل فيما يخص الحكم في القضايا العالقة التي لم تجد لها حلا في حياتنا المعاصرة ..
حسنا كان هذا مكسب أولي غنمناه من النص ، فلنواصل عسانا نظفر بالمزيد من الدروس والعبر الكامنة ، خلف السطور .. والملاحظ اننا عند هذه النقطة نكون قد سبقنا بطلة القصة قليلا ، والسبب ، ان غايتنا تحليل النص تفكيكا مرتبا ، لما يخبرنا به ، بينما هي لن تقبل بمثل هذا التجزيء في سيرورة حياتها ، لذلك اعلنت انها لم تفهم بعد القصد الذي يريده الهدهد من رسالته ..
في الفقرة الموالية تقول الكاتبة :
( مرت ايام طويلة وانا انتظر عودة الطائر لأسحب منه حقيقة الرسالة ولكنه أطال حبل النوى بيننا والمفتاح بدأ يستنجد بي لاحافظ على ملامحه التي بدات تختفي بالصورة وهي تتنقل بين يدي و الدرج.)
ثم طال غياب الهدهد ، لماذا وبعد اصراره السابق ، اختفى ؟ هنا تلقي الساردة باللوم على الهدهد ، ثم ماتلبث ان ترى اضمحلال صورة الرسالة امامها ، اعتقادا منها ان الهدهد مكلف بحمل الرسالة وبتوضيح فحواها ايضا ، وهذا خطأ فادح قد وقعت فيه ، ألم يحاورها الهدهد ؟ الم تخبرنا هي عن لامبالاتها وانشغالها ، واذن هي لم تكن أهلا للامانة ، وهذا ما ستفصح عنه الكاتبة حين تقول :
( ناجيت ربي ليعيد الهدهد إلي وتعود الصورة إليه لانني رغم قربها احس انها ليست لي ….ربما اخطأ في العنوان . )
نعم هذا سؤال جوهري ، حين نعجز عن حمل الامانة التي اوكلت الينا ، لابد ان يساورنا الشك ، بان هناك خطأ ، فنزيح عن انفسنا ثقل التهمة التاريخية الموجهة لنا ، نعم لقد فرطنا في ديننا وثراتنا ولغتنا وكرامتنا وعرضنا وكنوز اجدادنا المعرفية ، وكلما سألنا عن ذلك ، قلنا ، نحن لانلمك الوقت ، نحن غير مؤهلين لهذا ، لسنا احرارا في اتخاذ القرارات ، ثم ما نبلث ان نتبرأ من انتسابنا ، لهذه الهوية وهذا الحمل الثقيل ، ثم نفكر في لحظات ضعفنا ، ان نتهم الاقدار ، والظروف وندعي ان الرسالة اخطأت العنوان ، وأننا لم نكن نحن المعنيون بها ، ثم نتجرأ أكثر واكثر ، فنتهم الرسالة نفسها ، ونشكك في جدوى الدين والهوية والارث والامانة ، وهذا ماحدث بالضبط مع بطلة نص ( رسالة الهدهد ) الذي يتحدث باسمنا جمبعا …
تقول الكاتبة :
( انزعجت من شكوكي في جودة المفتاح ، فهو يبهرني بشكله الراقي ولكنه لا يقوم بدوره…! )
نعم المفتاح لايقوم بدوره ، وان كان مظهره مغريا ..
( ويغريني بمظهره الأنيق ) ثم ان الساردة فقدت القدرة تماما على معرفة كيفية استعمال هذا العلم .. مع انها تعتقد انه قادر على منحها القوة ، ولم لا انه الشرع الاسلامي الحنيف ، الذي ينصف المرأة ، وهذا ما ورد في النص عند قول الكاتبة ، وشكوى بنات جنسي .. كما انه نصر للمظلوم ، واسعاد لكل عاشق ..
( ولم اتمكن من استعماله، ويبعث في الامل في قدرته على إخفاء انيني والم كل عليل ، وضعفي وعوز كل محوج ،و ياسي وشكوى كل بنات جنسي، و قهر كل مظلوم ، والم كل عاشق … )
ثم هاهي ذي تسأل عن سر غيابه ، فتقول :
لم لم يعد الهدهد’؟
هل اراد مني ان ازين بصورة المفتاح جدران بيتي؟
وهنا اشارة بالغة الذكاء الى ظاهرة تزيين البيوت بالكتب دون قراءتها ، وكذا تزيين الجدران بالآيات القرآنية التي لايعمل بها ..
هل هو يمتحن قوتي و صبري؟
نعم انه كذلك ، انه يمتحن قوتك وصبرك ، لكي تنتفض على الظلم بانواعه ، خاصة ظلمك لنفسك وتجاهلك حقيقة امرك ..
هل يمتحن قدرتي و ذكائي؟
نعم انه يريد منك اهتماما فكريا كاملا ، وليس مجرد هواية في اوقات الفراغ ، فهو كفيل بصناعة حياتك كلها والنهضة بامرك وأمر امتك ..
هل سيعود يوما ليسألني اويجيبني؟
الجواب ، نعم ، لقد عاد ، من خلال هذا النص القصصي الفريد الرائع ، وطرح اسئلته فعلا ، وتمت الاجابة عنها بذكاء كاتبة عرفت كيف تنبه القراء وتذكرهم ان الذكرى تنفعهم ، وان يعلموا بعد ذلك ، ان الاجابة لديهم ، فهم وحدهم من يمتلكون الاجابة ..
شخصيا وانا اقرأ هذه القصة القصيرة اول مرة ، اندهشت امام تقنية السرد البالغة الفطنة ، وكيف امكن للكاتبة كريمة رحالي ، ان تختصر سيرة الثقافة العربية الاسلامية وكيف تعرضت لنكسة كبرى سببها تفريط أينائها ، ولا مبالاتهم ، فلقد كانت الرمزية بالغة الاتقان وهي تعمد على خدمة المعاني العظيمة ، باسلوب سهل واضح مفهوم ، يشبه التلقائية ، لكنه بالغ العمق ، وحتى فيما يخص تاريخ الفرد الشخصي ، سوف يجد كل واحد منا نفسه في هذا النص ، فيتذكر احلامه وطموحاته الحقيقية ، التي غيبها انشغاله ، بالعمل والكسب المادي والتسابق وراء الربح السريع ، دون ان يمنح نفسه فرصة مراجعة نفسه ، ومحاولته تحقيق احلامه الاولى التي كانت وحدها القادرة على أن تمنحه الفخر والرضا عن الذات ، واني أعتقد ان الظرفية التي كتب خلالها هذا النص مؤثرة بشكل كبير في خروجه للوجود ، الا وهي لحظة الخلوة التي كنا نبحث عنها جميعا ، لكي نعود الى انفسنا ، والتي لم تتحقق قطعا الا ايام الحجر الصحي الذي فرض علينا بسبب وباء الكورونا ..
كثيرون منا يقفون صامتين امام ذلك السؤال المحرج جدا ،
– لماذا لاتقرأ ؟
– لا اجد الوقت ..
– لماذا لا تمارس هواياتك القديمة ؟ لماذا لاتحقق احلامك التي كنت تهتف بها صباح مساء ؟
– لست أدري ..( الجواب الغبي الجاهز والمعتاد )
– متى نعود الى ثقافتنا الحقيقية وهويتنا الاصلية ؟ متى نتحرر ؟ متى نكون مانريد نحن أن نكونه ، وليس ما اراده لنا الاخرون ؟ متى نفهم الرسالة ، ونكون اهلا للامانة ؟
اسئلة عميقة تطرحها الكاتبة الاديبة الدكتورة كريمة رحالي ، وانتم الملزمون بالاجابة ..
تحياتي .. محمد الطايع ..
☆☆☆☆☆ رسالة الهدهد ☆☆☆☆☆
قصة قصيرة بقلم : كريمة رحالي
طل علي الهدهد من شرفة منزلي وهو يحمل صورة لي ، ترددت في اخذها منه ، فإذا بي أسمع همسا مجهولا يقول لي : “خذيها فهي لك و من خير رسول “،
وقبل ان أقرر استلامها منه نفض الطائر جناحه ليسقطها في راحتي وكانه وصل إلى مسامعه الصوت نفسه وحلق في العلو.
تركت جناحاه نفحة هواء على وجهي استمتعت بها كل ملامحه ،ضمت يداي الصورة ،لم احدق فيها للتو وضعتها في درج مكتبي .
انشغلت مع ظروف الحياة المتلونة، تارة تداعبني ببياضها وتارة تصفعني بسوادها لتلهيني في مهمة البحث عن نقطة نور أغير بها قتامتها، وتارة تجبرني على ممارسة طقوسها المملة وتحمل لياليها البطاء.
عاد أبو الأخبار ينقر على زجاج نافذة الشرفة ، هذه المرة لم يسلمني شيئا بل ذكرني بنظراته المعاتبة للامبالاتي مدركا بانني لم ار الصورة ، خجلت منه لانني لم اهتم ….
طار من جديد واتجهت نحو مكتبي لأهتم هذه المرة، فتحت الدرج اخرحت الصورة وتأملت فيها لأجد بها مفتاحا أنيقا وكانه ذاك الذي تفتح به علب مجوهرات الأميرات ، بل الذي تفتح به أبواب القصور البهية ، بل ذاك الذي يحتفظ به كل فلسطيني من ايام النكبة آملا في العودة وفتح اراضيه من جديد ، بل الذي تفتح به الاعين العمياء ، و الاذن الصماء ، والقلوب الجوفاء…
تعودت ان ارى صورة المفتاح كل مرة في اليوم لتتعداها إلى مرات وتمنيت لو امسك به واحل كل شيء مغلق و افتح باب كل مأسور وقلب كل مكسور وعقل كل عقيم……
عاد الهدهد مرة أخرى يحاول قول شيء ولم يقل شيئا ولم اكلفه عناء الكلام و اوهمته انني فهمت قصده لأمضي بثقة عالية في رحلة البحث عن الحقيقة…
لم اكن اعلم ان الصورة ستكون رفيقتي في يومياتي استانس بها في وحدتي اعود إليها في ضيقي ،هذا التعود صيرها من الثبات إلى الحركة واخرجها من صورة السكون و الجمود ومن إعاقة البكم …
ظللنا اياما في حواراتنا الفلسفية والتاريخية والعاطفية…. لم نمل منها ورغم ذلك لم أوفق في معرفة قصد الهدهد من رسالته …
مرت ايام طويلة وانا انتظر عودة الطائر لأسحب منه حقيقة الرسالة ولكنه أطال حبل النوى بيننا والمفتاح بدأ يستنجد بي لاحافظ على ملامحه التي بدات تختفي بالصورة وهي تتنقل بين يدي و الدرج. ناجيت ربي ليعيد الهدهد إلي وتعود الصورة إليه لانني رغم قربها احس انها ليست لي ….ربما اخطأ في العنوان .
انزعجت من شكوكي في جودة المفتاح ، فهو يبهرني بشكله الراقي ولكنه لا يقوم بدوره…! ويغريني بمظهره الأنيق ولم اتمكن من استعماله، ويبعث في الامل في قدرته على إخفاء انيني والم كل عليل ، وضعفي وعوز كل محوج ،و ياسي وشكوى كل بنات جنسي، و قهر كل مظلوم ، والم كل عاشق …
لم لم يعد الهدهد’؟
هل اراد مني ان ازين بصورة المفتاح جدران بيتي؟
هل هو يمتحن قوتي و صبري؟
هل يمتحن قدرتي و ذكائي؟
هل سيعود يوما ليسألني اويجيبني؟
كل ركن في بيتي ينتظر أبا الربيع الذي اصبح زائرا مهما زلزل وعيي الشقي وحدسي القوي و فضولي المحتشم ، أشغلني بفك أسراره وخباياها، واتوق إلى استقبال الجديد منها وكانني في جزيرة مغمورة راهنت على ان أطأ أرضها لأكون اول من يكتشف الكنوز المدفونة بها مستمتعة بلعبة الفوز…. الفوز الوهمي. …!
استاذنتني نافذتي بأن تظل مفتوحة لاستقباله فوافقتها شريطة إخباري برجوعه ونظرت إليها طويلا و قلت لها : ” انتبهي…!! ان زائرنا يفضل النقر على الزجاج .