
كالم الشعيبية
على رصيف الحاضر رمى الماضي جنينه،
أتعبه الزمان والمكان،تاركا خطوطه على وجهه كعلامة تُذكِّره بمعاناته اللامنتهية ،
حتى لا ينسى أو يتناسى ماضٍ مُزج بين الأبيض والأسود.
عمل لساعات،تربية لأبناء وبناءٌ لمستقبل لا ينسب له؛كلها أثقلت كاهله،ظهره المقوس أحيانا وركبتاه لا تسطيعا حمل باقي الجسد،أرهقه السهر،المعاناة، ومسافات الحياة الطويلة ذات المنعرجات الكثيرة.
في ساحة المدينة التي نسبت وهما له ولبقية مثله تقاسموا محطة الوصول وهي “التقاعد”.
المارة اعتادوا المرور بجانبه كأنه رمز من رموز المدينة التي لا ينبغي لها أن تندثر او تُحرّك من مكانها،
ظل الشجرة كان السقف والجدار لحياة لم تبنى عبثا؛تحته يجلس متربعا على عرش الشيخوخة،
صوته يتعالى كطفل صغير غشه صديقه في لعبة يتقنها،
كرسي الجلوس بات لوحتهم تُرسم عليها خطوط الشطرنج التقليدية أو ما يطلق عليها “ضامة” ؛التي جمعت ذكاءهم وأظهرت مهاراتهم في المراوغة،فلا أحد يتقنها غيرهم على حد تعبيرهم،
جل تركيزهم ينصب على ذاك المكان لا حركة المارة ولا ضجيجهم يؤثر على أدائهم ،
متعة اللعب تنسيهم تعب الوقوف لساعات منتظرين الدور،فلا تُسمع شكواهم من ألم المفاصل ولا من أثر الضغط الدموي أو السكري .
تتخالط الأصوات فيم بينهم ،لم تعد تثير انتباه الباقي،فالكل اعتاد تلك الحياة بتلك الفوضى المحبوبة،
لا شك انك مررت يوما بجانبهم،ولا شك انك اشتكيت من صراخهم ،او انتقدت صبيانيتهم كالجميع،
الكل يرى تلك الحياة “قلة ميدار”.كثيرة هي الحلول التي تُرمى في سماء الوهم،
بين من يحتهم في قرارة نفسه عن المكوت في المنزل وتوطيد علاقتهم بالخالق،وبعضهم يرى انها “قلة عقل” فبدل كل تلك التفاهة كان بمقدورهم الجلوس والاحتماء من الحرارة والبرد فلم يَتبَقّى من عمرهم الا قليلا ،وتتعدد الحلول.
ولكن هل أحس أحدهم بالفراغ الذي تركه التقاعد في نفوسهم ،هل جرب الخروج من طريق الحياة المعتادة والوقوف على الحافة منتظرا قطارها الذي ربما لا ولن يمر من هناك،
فحجم المعاناة النفسية المخلَّفَة لا يمكن تصورها..تصبح التفاصيل قاتلة،والتحقيق فيها موت بطيء،فلا هو قادر على غض البصر عن خطأ لا يُرى بالعين المجردة،ولا مكونات البيت قادرة على تحمل الكلمات المعاتبه لها بين الفينة والاخرى .
هربا من حياة لم يعتد الإبحار في اعماقها،هربا من جمل تتسرب لمسمعه واصفة إياه بفاقدٍ لعقله، ثرثار بدون فائدة واحيانا محب للعتاب والتوبيخ:يصبح الشارع مقره الثاني،
وتصبح حياته تدور حول الاستيقاظ،الافطار ،والتوجه دون تردد لساحته المعتادة تاركا لغوهم وكلماتهم الجارحة خلفه، تاركا احيانا وجبة الغذاء أو تأجيلها الى أن يسدل الليل ستاره معلنا عن نهاية فصل من فصول حياته الثانية التي عاشها بكل تفاصيلها رفقة من قاسموه نفس المعاناة .
فائز بإسم “المراهق العجوز”
ليضيفه إلى قائمة النعوت التي أكسبه إياها عمره المتقدم وحركاته البريئة غير المخطط لها