
محمد سعيد الاندلسي
في عالمٍ يموج بالصخب ويتسابق نحو الحداثة، تأتي سهيلة الصحراوي كصوتٍ من الماضي العريق، يهمس في أذن الحاضر، ويذكّرنا بأن الجذور هي من تصنع الشجرة، وأن الكلمة هي ما يبقى حين يذهب كل شيء. سهيلة ليست مجرد فنانة تؤدي أغاني الملحون، بل هي أشبه بحارسة معبد قديم، تتقن طقوسه، وتحفظ أسراره، وتنثرها على جمهورها كأنها بذور تنبت حبًا واعتزازًا بالتراث.
الموسيقى عند سهيلة الصحراوي ليست مجرد إيقاع ونغم، بل هي فلسفة وجود. الملحون، الذي يعد إحدى أرقى أشكال التعبير الشعري في الثقافة المغربية، وجد في صوتها وسيلة للعبور بين الأزمنة. كل قصيدة تؤديها هي حكاية تُنسج من حكمة الأجداد، وتجسد لحظة التقاء الماضي بالحاضر. سهيلة ليست فقط فنانة تقدم تراثًا، بل هي وسيط بين زمنين، تنقل بأمانة روح الأول إلى الثاني، دون أن تفقده صدقه أو بساطته.
في كل نغمة تؤديها سهيلة، هناك حوار داخلي عميق بين الكلمة والموسيقى. صوتها، الذي يحمل دفء الأرض المغربية وشفافية سمائها، لا يكتفي بالتعبير عن الجمال السطحي، بل يغوص في أعماق المعنى. هي تؤمن بأن الملحون ليس غناءً فحسب، بل رحلة تأمل في الإنسان، في علاقته مع الحب، الألم، الفرح، والوطن. صوتها هو انعكاس لفلسفة ترى في الفن وسيلة للتواصل مع الذات ومع الآخر، وسلاحًا لمقاومة النسيان.
حين تصعد سهيلة الصحراوي على خشبة المسرح، فهي لا تقدم عرضًا فنيًا بالمعنى التقليدي، بل تؤدي طقسًا شعائريًا يجعل الجمهور شريكًا في التجربة. الملحون في يديها يتحول إلى مرآة تعكس أحوال المجتمع، وتدعو إلى استبطان الذات وفهم الآخر. ترى سهيلة أن الفن الحقيقي هو ذلك الذي يُسائل الإنسان ويجعله يتأمل موقعه في العالم. لهذا، فإن كل أغنية تؤديها تحمل في طياتها دعوة صامتة للتفكير والتساؤل.
اللافت في مسيرة سهيلة الصحراوي أنها لا تنتمي إلى مدرسة جامدة، بل تبحث باستمرار عن طرق جديدة لتقديم الملحون بشكلٍ يلامس الأجيال الشابة دون أن يفقد أصالته. هي تدرك أن التراث ليس شيئًا يُحفظ في صندوق زجاجي، بل كائن حي، يتنفس ويتطور. ومن هنا، تأتي قدرتها على التوفيق بين احترام الماضي والانفتاح على المستقبل، فتمنح الملحون حياة جديدة تليق به كفن خالد.
سهيلة الصحراوي ليست مجرد فنانة تقف تحت الأضواء، بل هي فكرة، فلسفة تمشي على الأرض. هي تلك الحكمة التي يلتقطها الإنسان في لحظة صدق مع ذاته. من خلال الملحون، تجعلنا ندرك أن التراث ليس مجرد ذكرى تُستعاد، بل هو هوية نعيشها يوميًا، ورسالة تحملها أصوات مثل صوت سهيلة، لتبقى حية رغم تغير الأزمنة.