قصة قصيرة الزنبقة السوداء للكاتب محمد الطايع

بقلم : محمد الطايع..

اللعنة عليك أيها الحزن العاتي، لكم نبدو أمامك أقزاما وأنت العملاق.

بعد غيابها الطويل، منذ ثمانينيات القرن الماضي، تمر الزنبقة السوداء، يوم 2011/1/1 ، قرب البيت القديم، نوافذه الواسعة مغلقة، لكم تشتهي رؤية حبيبها هناك، لكنها تعرف أنه غائب. في نفسها شيء من الألم تحاول أن تداويه. سرها الدفين لا أحد غيرهما يعرفه، وذاك أن الذين جربوا مرارة أن ينتصر الأشرار في الأخير بشكل موجع ومباشر، عددهم قليل.

 

تخطو خطاها الوئيدة ما بين الشارع الكبير والزقاق المؤدي إلى الساحة، حيث يطل البيت القديم، بنوافذه التي كانت في الماضي دليل عز وبهاء، يخيل إليها أنها لو تجرأت ستفتح لها أمه الباب، وترحب بها بحفاوة، قلبها طيب وكريم، ستدعوها للدخول، وتسألها عن أمها والآخرين، ستقرب إليها صحن حلويات وفنجان قهوة، ثم تتنهد فوق الأريكة المواهجة لشاشة التلفزيون، وتقول في أسف عميق:
– اختفى.. لم يعد يزورني إلا في الأحلام. لم تحلو له الدنيا يوما واحدا بعد غيابك.
مثل هذه المكاشفات تؤلمها، وذاك أنها لم تغب، إلا بعد غيابه، وكان غيابها إلا رحلة بحث طويل عنه.

 

بعد لحظات من استئناسهما ببعضهما البعض، ستسمعان طرقا مشاغبا، ستفتح السيدة الكبيرة الباب، فيدخل عليهما طفل صغير، وسيم نبيه، يراها فيهلل فرحا، ثم يصافحها بحرراة كف رجل صغير، يستشرف الغد ببسالة الأبطال النبلاء، سوف يجلس بجوارها ويسألها:
– أمازلت تقرئين القصص؟

 

لن تسأله من أنت، لن تعكر صفوه وفرحه، فلعله أحد أقرباء العائلة، والسيدة الكبيرة، ستعامله بشكل عادي، باعتبار انه مألوف لديها مثل الإبن، والخطأ الذي سترتكبته السيدة، أنها لن تخبرها أي شيء عنه. أما هي، فسوف تميل نفسها إليه، مع أول إطلالة، وتحس تجاهه بحب مفاجيء جارف، وكأنها تعرفه منذ سنين، ستلوح لها خاطرة عجيبة، أنه حبيبها منح فرصة البدأ من جديد، لكنها ستبعد مثل هذا الخيال العاطفي عن رأسها، مرددة: هل يعقل هذا؟ ثم تجيب نفسها بنفسها: مستحيل..!

سيطلعها الصبي على برامج الألعاب الإلكترونية خاصته، ويخبرها أنه حليف للبطل “سبايدرمان”.. سترد بحماس، نعم أعرفه، تقول وعلى وجهها نصف ابتسامة: إنه حارس الحي الأمين، يسألها الصبي: لماذا يضع قناعا على وجهه؟ هل يخاف أن يكشف الأشرار هويته؟ تبتسم وتخبره، أنه يخفي هويته خوفا على أحبته، لأن الأشرار، حين يفشلون في إخضاع البطل، يستعملون أهله وسيلة ضعط. ثم يطلبون منه الاستسلام، مقابل سلامة أحبته.

 

ستنظر إلى ساعة يدها تتفقدها، بعدما تبصر هديتها لحبيبها، مركونة في الخزانة الكبيرة القديمة بإحدى الزوايا بإهمال بين الأواني. ستتذكر ذلك اليوم الذي أطالا الوقوف خلاله خلف النافذة، يتفرجان على تساقط المطر، يومها وهما يتأملان الرصيف المبلل، عَنَّ لها خاطر، أن علاقتهما ليست عابرة، وأنها اختصار لكل معاني الحب الموجود في هذه الحياة. دغدغت فيروز مشاعرهما بأغانيها صباح مساء. وقتها وهو يدس أنفه في عنقها، أسكرتهما أنشودة “وحدن” الساحرة. ثم همس لها، أن من الرائع أن يغلقا خلفهما أبواب الوقت، والمكان والسماوات. هناك حيث تحول بين أحضانها إلى شاعر، وأخبرها عن رغبته الجامحة في الرقص تحت خيوط الماء. ساعتها خطرت لها فكرة القبعة الهدية، والهدية الآن ملقاة بين الأواني وقد كساها الغبار، بينما لازالت تضع هديته على معصمها، وتحاول الإحتفاء بالذكرى، والتخفف من ثقل السنوات.

 

ستطلب الأم من ضيفتها أن تنتظر حتى موعد الغذاء، فيقفز الصبي فرحا، حين تختفي السيدة الكبيرة في المطبخ، سيطلعها على صورة طفلة شقراء جميلة في مثل عمره، إنها حبيبته، ستبتسم بألم وحسرة، ثم تتملكها الدهشة والاستغراب، يبدو أنها وقعت في حلقة لا نهائية من تداعي المشاهد، واختلاط الأزمنة. هذه الطفلة تشبهها أيام صباها إلى حد كبير، لكأنها هي!!

 

لا يمكنها أن تنسى ليلاتهما في سطح البيت، وهما يتأملان نجوما لا يعرف عدتها إلا الذي نثرها لامعة في السماء، أشبه ما تكون بمشاعر متوهجة ساحرة وغامضة، تسأله عن أسماء القريبة منها، فيشير إلى واحدة ويقول: هذه نجمة الشوق، تشير هي إلى أخرى وتقول: تلك نجمة الحلم، وهنالك أخرى للخلاص، ورابعة للإخلاص، وعاشرة للحب الكبير. تتوسد حجره ويحضن كتفيها بذراعيه، يحدقان طويلا في سماء الليل الصيفية، ويسألها عن أولئك القادمين من النجوم، متى يصلون إلى الأرض؟

 

حين ستأتي ساعة الوداع، سيتمسك بها الطفل ويبكي بجنون، والسيدة الكبيرة ستلتزم بالصمت وكأنها لا تريد أن تتدخل في ما يحدث أمامها، تاركة الحكم الأخير، للحكم الأخير.

 

ستصرخ في داخلها فزعا: رباه لكأنه هو!
ستحاول الهروب بأقصى سرعة إلى الخارج، ستغادر وصراخه يتبعها، يبكي، بكاؤه يقطع القلوب، ستهتز في مكانها
تنتفض كمن تنتزع الروح من جسدها، ويوشك قلبها ودماغها على التوقف،
ستجري بين الأزقة الخالية الرهيبة خائفة، أكثر ما يخيفها أن تكون قد جنت فعلا، وأنها الآن مقيدة في إحدى المصحات النفسية، وما كل هذه الوقائع إلا توهمات.

سوف تبلغ الساحة العمومية الكبيرة، حيث المحطات والحدائق، والعابرون على الأرصفة والصخب. ستمسح دموعا ساخنة غلبتها بمنديل أبيض، وتعدل من وضعية
النظارة السوداء اللون.

 

وهي تغادر المدينة، يستقر في وجدانها اعتقاد مهزوز، أنها لو وجدت الجرأة وطرقت باب المنزل القديم، وجددت الوصال بأم حبيبها، لودعتها المرأة
بنظرات حزن عميق، آسفة على الزمن الذي كانوا يعيشون فيه أشبه بعائلتين. افترضت أيضا، أنها سوف تشيعها عند الباب، تردد في شبه توسل: بلغي سلامي لأمك. كم كانت المرأتان سعيدتان ومشرقتان أيام كانتا جارتين، توزعان الفرح صباح مساء، كما لو أن سائر أيامهما حفلات و أعياد. لكن ما يدريها أن والدة حبييها الطيبة مازالت هناك. فشكل البيت المهمل، يخبر أنه خال ومهجور. وهو فعلا كذلك، ومن يدري لعل أحدا سوف يخبرها، أن تلك المرأة ماتت منذ سنين، فإن لم تكن تعلم بذلك فلابد أنها ستود لو أمكنها أن تلتقي بها مرة أخرى ولو لوقت قليل!

 

في طريقها إلى المحطة، تتمنى لو أمكنها أن تزور أمها كذلك، مرة واحدة قبل أن تغادر هذه المدينة الحزينة. عليها أن تودع كل جميل في حياتها السابقة، لأنها عازمة فعلا على إكمال سفرها الطويل، بعدما جابت الدنيا بأسرها، تزوجت مرارا، وصادقت رجالا كثيرين، عاشت علاقات لا حصر لها، ووقعت في الحب عشرات المرات، لكن حنينها ظل أبدا للحبيب الأول، والمنزل الذي عاشا فيه. لكنها رغم هذا كله، موقنة أنها لا تملك الجرأة لطرق أبواب الغرباء، والموتى والغائبين إلى الأبد. أما والدتها فقد قضت نحبها بعد رحيلها الأول. وهي تعلم ذلك، حيث ظلت تبكيها وتنتظر من يخبرها إيهاما أنها مازالت حية ترزق، مثلما انتظرت والدة حبيبها عودة ابنها سنوات طويلة. من المؤسف أن المعارف والعامة، كانوا يعتقدون أن الزنبقة السوداء غادرت رفقته حبيبها في وقت واحد إلى وجهة ما، لكي يتمكنا من العيش في حرية متخلصين من ربقة العادات ووصاية التقاليد. هكذا فكر التافهون، لا الأهل ولا سكان الحي علموا أي شيء عن الظلال السود، فرسان الشر، وكانوا يتربصون بالأبطال المساكين تلك الأيام، فيزجون بهم في ظلمة المعتقلات دون محاكمة. يومها كانوا، ينفذون مخطط اجتثات المتمردين من الجذور. والقضاء على جميع من يظنون أنفسهم أبطالا خارقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى