قصة هروب نحو المجهول للكاتبة النواوي لطيفة

في المرفأ يعلو صوت الباخرة، ويصدح المكان بصراخ المسافرين وهم يودعون أحباءهم و أصدقاءهم، بخطوات واهنة ونظرات شاردة، وملامح تائهة، تجر “لمياء” حقيبتها و تجر معها الخيبة والإنكسار، غير مستوعبة لطريق وجهتها !
ذكريات كثيرة تزدحم بذهنها، وأفكار مشتتة ومخاوف، وأوجاع تكاد تفتك برأسها الصغيرة، رفعت بصرها للسماء، تنظر للنوارس وهي ترفرف في الفضاء، بكل نشاط، وكأنها تلوح لها بأجنحتها مودعة لها..
يعلو صوت الباخرة من جديد، كأنه يستعجلها الرحيل. أفاقت من شرودها على صوت أحد موظفي السفينة:
_هلا استعجلتي الصعود من فضلك إننا على وشك الرحيل؟
أجابته وكأنها تحدث نفسها بصوت مرتفع، و بيقين وقد لمعت عيناها بنظرة قسوة مخيفة:
_نعم لقد حان وقت الرحيل لأترك كل الوجع خلفي، لن أعيش بجهنم بعد الآن..
صعدت بخطوات مترددة ومتثاقلة، بكل ما تحمل في داخلها من ذكريات وآلام،وبعيون فارغة من الحياة إلا من دموع متحجرة، في مقلتيها تأبى إطلاق سراحها بالنزول،خوفا من أن تضعف وتتراجع..
كانت بين الرحيل إلى مصير مجهول، والرجوع إلى عذاب معلوم،عايشته إلى أن فاض بها الكيل،بعد أن استنفذت مقدارها في الصبر،وإعطاء الفرص والمحاولات،وتصديق الوعود الكاذبة،كانت جميعها تنتهي بخيبة أمل، في أن تكمل حياتها في سلام..كانت سنوات حياتها الأخيرة،توتر وصراخ ودموع،وجو مكفهر عصف بكل أحاسيسها إلى أن جاء الحدث الأخير ذمر ماتبقى من كيانها، وعزة نفسها، وكأن عالمها بأكمله كان عبارة عن انعكاس لصورة في مرآة،وأتى الموقف الذي ذمر كيانها وتلاشى إلى أشلاء،أدمت قلبها وأوجعت روحها واختفى عالمها في لحظة وأضحت بلا هوية وهو حالها الآن،بلا وجهة بلا أمل و بلا مستقبل،لا تحمل في رحلتها زادا سوى ذكريات،مجرد ذكريات،تؤلمها،تعذبها وتنخر كيانها..وبقايا إحساس يمزق قلبها،يعصر روحها و يؤرق نومها..

“فلاش باك”
صورة مبهمة لفتاة صغيرة كلها حيوية ونشاط،تركض ببراءة نحو أمها التي كانت تحيك الزرابي، وتبيعها للجارات أو تحملها على عربة أخ زوجها ليقوم ببيعها في السوق الأسبوعي، لتتمكن بثمنها من شراء لوازم البيت، وتوفير ما تقتات به رفقة صغارها والأهم من ذلك توفير ثمن الأدوية لزوجها المريض،الذي أضحى ملازما للبيت منذ عامين، بعد تطور مرضه وصار في المرحلة الأخيرة، وبدأت أعراض السرطان الدماغي تفتك به يوماً بعد يوم،ما من علاج،ومن أين لهم بثمنه؟ تعود العيش على مسكنات للآلام كي يتمكن من النوم،حيث أصبح أسير الفراش بعد أن كان عاملاً نشيطاً في أحد الموانئ:
الطفلة الصغيرة:
_أمي أعطني الدراجة أريد التدرب عليها !
الأم بتحذير:
_اذهبي والعبي بدميتك يكون أفضل ! لا أريد ضجيجاً فوالدك مريض، و قد غفى لتوه بعد أن أخذ مسكناته !
الطفلة بخوف متسائلة:
_أمي ! “عائشة” ابنة جارتنا “الخالة أمينة” تقول أن والدي مرضه خطير وأنه لا علاج له،هل صحيح سوف يموت أبي؟!
أجابتها والدتها بحزن وهي تحتضنها شفقة عليها، لأنها تعلم أن ما سمعته من ابنة جارتهم حقيقي:
_الأم:اسمعي يا “لمياء” لا يجب أن نصدق كل ما يقال لنا، فالعلم عند الله وحده فإن شاء عافاه وأشفاه،وإن شاء توفاه وأراحه من آلامه، وفي كلتا الحالتين يجب أن نرضى بحكمه وقدره،ونحمده نشكره على السراء والضراء..
الطفلة بتفكير:
_من هو الله يا أمي!؟
الأم بكل ثقة وقد انشرحت أساريرها:
_الله يا ابنتي هو خالق الكون وخالقنا،هو من كتب أقدارنا،وفرق أرزاقنا وهو وحده يعلم بآجالنا، هو وحده يا ابنتي يعلم الغيب ولا يسأل أحد سواه..
الطفلة بفرح:
_إذن سوف أطلب منه أن يشفي والدي،كي يدربني على ركوب الدراجة، كما قام من قبل بتدريب إخوتي..
بدأت الباخرة بالابتعاد عن رصيف الميناء تدريجياً ، ارتسمت إبتسامة حسرة ونظرة حزن على وجه “لمياء” بعد أن أفاقت من ذكرياتها البعيدة،فقد توفي والدها قبل أن تحقق حلم طفولتها بتعلم ركوب الدراجة، وأن يقوم والدها بتدريبها،تذكر أنها بكت كثيراً يوم الوفاة وكرهت”عائشة” ابنة جارتهم”أمينة” لأنها كانت مدركة بهلاك والدها،بسبب مرضه الفتاك،ولكنها وببراءة طفولية كانت تؤمن بأنها مشيئة الله،ذلك الوحيد الذي يستفرد بعلم الغيب..
ذكريات تتلوها ذكريات.. تتذكرها بحدة و يأس، لأنها تعلم وتدرك أنه في يوم ما سيختفي كل شيء،لن تجد في ذاكرتها سوى الفراغ !
بعد تكرار الدوار المصاحب للألم والإغماء في غالب الأحيان،ونسيان أحدث الوقائع،طلب منها أحد الأطباء إجراء فحص دقيق للمخ والأعصاب،وكانت النتيجة صادمة بالنسبة لها،لاكتشاف الدكتور الأخصائي خلال الفحص، بأنها مصابة بورم سرطاني على مستوى المخ،نتيجة جينات وراثية،وقد قامت بتنشيطه عوامل المحيط الذي كانت تعيش به،من توتر وخوف وانفعال طوال الوقت،وحزن لدرجة الإكتئاب،والصدمات النفسية التي انهالت عليها تباعا في الآونة الأخيرة..
تساءلت بصدمة وحزن:
_هل سوف أموت بسبب هذا المرض الخبيث كوالدي؟!
الطبيب موضحا حالتها:
_مبدئياً سوف تصابين بفقدان ذاكرة تدريجي،وسوف لن تكوني قادرة على تمييز الأشياء،وتخلطين بين الأمور،وهو مايسمى بالخرف المبكر،سوف تموت ذاكرتك بادئ الأمر،ثم بقية أعضائك الحيوية تدريجياً..
لمياء بتوسل:
_أليس هناك علاج؟ يقولون أن الطب تقدم!
الطبيب المختص:
_بلى! يمكن إجراء عملية لاستئصال الورم،لكنها خطيرة في حد ذاتها،ونسبة نجاحها لا تتعدى 10٪ ، لأن المريض قد يصاب بالشلل الجزئي إلى العجز الكامل عن الحركة.
خرجت من العيادة وهي تفكر،إن كان المجتمع لا يقبلها وهي سليمة،فكيف سيكفلها وهي عاجزة وبلا ذاكرة؟!
فكرت في إخبار زوجها بجديد ماسمعته عن مرضها،وكيف أنها أصبحت بين نارين،إما أن تموت تدريجياً ، وإما أن تصبح عاجزة..
رفعت كفها لتمسح دمعة انهمرت رغماً عنها،وهي تحرك رأسها رافضة للفكرة،فقد أصبحت متأكدة من أنه لن يشفق عليها حتى،ولن يستشعر الخوف من فقدانها،بل لعله يكون سبباً آخر للتخلي عنها ونبذها،لأنها في نظره دون جدوى ولا فائدة،كونها من عائلة فقيرة ذات أصول قروية بسيطة،على الرغم من أنها تعمل بجهد لتكفل حاجيات البيت..
صارت السفينة الآن عرض البحر،و”لمياء” تائهة في ذكرياتها كأننا ترجوها عدم النسيان..
بينما تقارن بين تفاصيل الماضي والحاضر، أطلقت تنهيدة حارة:
_رباه ! كيف آلت الأمور إلى ماهي عليه الآن ؟
 تساءلت مراراً ،كيف تحولت علاقة كان أساسها الحب والأمل، إلى شجار يومي وتجريح لذاتها،وتذمير لكيانها،أين ذهبت كمية الحب ؟التي كانت أساس زواجهما،والذي تحديا به العالم من حولهما !
كيف يتلاشى الإحساس الدافىء ليسكن مكانه الخذلان والإحتقار ؟ لازالت تتذكر وبشدة أول يوم لقائهما..
كانت حينها شابة في الخامسة والعشرين من عمرها،تشتغل كنادلة في أحد المقاهي،حيث لم تمكنها ظروفها المادية والأسرية،من إتمام دراستها الجامعية،كان “عمر” شابا في منتصف الثلاثينات من عمره،زبون دائم لمقهى “القبة” حيث تشتغل “لمياء”.
حاول أن يعاكسها مرة،لكنها أسمعته بضع كلمات منحته درسا في الأخلاق.كما كان يقول ممازحا لها فيما بعد..
ظنت أنه سوف يشتكيها إلى مسؤول العمال، فيوصد بوجهها باب رزقها الوحيد،لكنه لم يجرؤ،بل ازداد إعجابه بها، حيث أتبثت له أنها ليست كما يظن أغلبية الناس،في نادلات المقاهي والمطاعم،كونهن سهلات المنال،وعلى إستعداد لتقديم أي نوع من الخدمات مقابل المال،بل أكدت له أنها ليست قاعدة جارية على الجميع،بل هناك استثناءات،وأن الإنسان منا تحكمه مبادئه وأخلاقه وتربيته، وليس عمله مهما كان مستواه.من يومها توالت زياراته لنفس المقهى،إذ كان يشتغل موظف حسابات، في إحدى المؤسسات المالية القريبة من المقهى.ازداد إنجذابه لها يوماً بعد يوم،بل أحبها و رأت فيه الرجل المثالي،ليس ماديا فقط،بل فكرياً وخلقيا،حيث أنه حسن المظهر،جذاب،وإنسان نشيط و فكاهي أيضاً ،كانت لا تتوقف عن الضحك طيلة أمسياتهما.
تعاقبت الأحداث بينهما، وفاضت بهما الأحاسيس من إعجاب واحترام وارتياح،إلى حب وتعود ثم عشق وشغف،إلى أن أضحى من المستحيل استغناء أحدهما عن الآخر، فقررا الزواج بعد قصة حب دامت 3 سنوات.وككل الأزواج عاشا عامهما الأول في سفر ولهو واستمتاع بالحياة الزوجية،كانت من أسعد سنوات “لمياء” على الإطلاق ولكم تمنت أن تدوم سعادتها،لكن تهب الرياح بما لا تشتهي السفن،فتدريجيا فقدت العلاقة بينهما شغفها،وذبل العشق الجارف،الذي كان يضرب به المثل بين العشاق من حولهما،أصبحت الحياة مملة وثقيلة وروتينية،وكثرت الشجارات وفقدت الحياة بريقها،واضمحلت السعادة من أركان عشهما إلى لا رجعة..

أصبح “عمر”أكثر عصبية و توتر،بعد أن كان أكثر الرجال نشاطا،وحبا للحياة،وقد استبدل طاولته في مقهى”القبة”،بطاولة في أحد النوادي الليلية ! أجل،فقد أصبح من رواد هذه المستنقعات،التي تعج بجميع أنواع المفسدات والمهلكات،من خمر و مخذرات وقمار،وبنات الهوى.. أصبح مذمن كحول سكير،يمضي الليل في الشرب والسكر،والنهار في النوم والشجار مع زوجته”لمياء”،إلى أن تم طرده من وظيفته،وتدهورت حالتهما المادية،فكان لابد من عودة “لمياء” للعمل من جديد كنادلة في المقاهي،كونها لا تجيد عملا غيره،ولأنها بأمس الحاجة للعمل كي تعيل زوجها وتحافظ على بيتها..
“عمر” بصوت خشن متلعثم بتأثير الكحول:
_العيب كل العيب علي أنا،كنت مغمض العينين،تزوجت بنت فقيرة،وجه نحس وفقر،لا تملكين شهادات عليا ولا ديبلومات،ولا حتى ميراث أتمكن من استثماره في مشروع خاص..
أجابته”لمياء” بانكسار:
_أ حقا أنت من يقول هذا الكلام الجارح؟ بالأساس لم نتزوج من بعضنا طمعا في المال،بل جمعنا الحب فقط..
أجابها وهو يرسم بسمة سخرية:
_عن أي حب تتكلمين يا مسكينة؟الحب من غير مال، لا يستحق مني أن أدفن عمري بجانبك !
“لمياء”:
_ولم لا تبحث عن عمل في مؤسسة أخرى، فأنت صاحب خبرة كبيرة في مجالك؟
أجابها بحدة بعد أن رمى بكأس كان بيده عرض الحائط:
_أنا لن أشتغل مجدداً عند أناس ناكري الجميل،أنكروا تضحياتي وسنوات عملي لخدمتهم ،بل طردوني جراء أول خطأ أقترفه..اذهبي أنت للعمل في النوادي الليلية فهي أوفر مالا،فالزبائن أسخياء مع النادلات،وأنت متعودة على هذا العمل..
“لمياء” وقد اتسعت أحذاقها من شدة الصدمة:
_ماذا ؟!! أتريد لزوجتك أن تشتغل ناذلة، تقدم الطلبات وكؤوس الخمر لأمثالك من السكارى ؟! وتأخذ بقشيش لتنفقه أنت على سهراتك الماجنة ؟! أ هذه نخوة؟أ هذه هي الرجولة؟….آآآه !!
لم تشعر “لمياء” بشيء بعد الصوت المدوي، الذي صم أذناها وشلها عن الحركة،إذ سقطت فاقدة للوعي بعد أن تلقت صفعة قوية على خدها، وبدأ “عمر” بالسباب واللعان والشتائم، الذي استمر لساعات ثم خرج ليشرب الكحول ككل مساء..
سالت دموعها بغزارة،بعد أن استحضرت هذا الموجز من حياتها التعيسة مع زوجها،وكيف أن الحب الكبير الذي كان يسكن جوارحها،أصبح ألما ونارا تكوي مابين ضلوعها.
رعشة برد أرجعتها إلى الواقع..
“لمياء”محدثة نفسها:
_أنا الآن وسط البحر الواسع،بعيدا عن الأرض التي لوثتها أقدام البشر !بعيدة عن كل شرورهم وكذبهم وغذرهم،إن الأرض لا تطؤها إلا أرجل الجبناء، الخائنين والمستغلين، أصبحت مقتنعة الآن أن البحر أكثر صدقا،فهو يجعلك تختار مصيرك،إما النجاة أو الغرق..لقد انتهى كل شيء الآن..!
ظلت السفينة تبتعد وتبتعد،إلى أن اختفت في الأفق البعيد، مقلة “لمياء”، في رحلة هروب نحو المجهول.

النهاية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى