
الناقد: حمدي تريعي
بعد صدور أي مسلسل عربي يتهافت معظم النقاد لرؤية العمل والتمعن في تفاصيله قصد تقييمه وتحديد نقط قوته وضعفه… لكن هنا في هذا المقال سأكتفي فقط بتقديم قراءة في المقطع الذي نشره سعيد الماروق لآخر أعماله الفنية «الدولة العميقةDeep state :» والذي يعالج من خلاله قضايا بوليسية يغلب عليها طابع التشويق، وهو لوحة فنية متحركة مكونة من ست حلقات مكثفة، بدأ عرضه على منصة «نتفليكس»، حيث يتناول العمل قصة درامية مشوقة، تدور وقائعها بعد تحطم طائرة حربية وهو حادث سيساهم في كشف تورط وزير الأمن القومي في قضايا فساد عديدة، إذ سيقوم ضابطان في البحث عن الحقيقة المرتبطة بهذه الواقعة، ليكتشفا بعذ ذلك العديد من الخبايا والأسرار الصادمة والمتعلقة أساسا بتسيير مؤسسات الدولة بإزاحة الغبار عن صفقات مشبوهة وأسرار مظلمة، تعيد تشكيل خريطة السلطة وتعرض الحقائق المدفونة في باطن الدولة العميقة.
لاشك أن الماروق بهذا التحدي الجديد يعطي للمشاهد العربي فرصة ثمينة لتحليل ما يقع سياسيا سواء على المستوى العربي أو العالمي محاولا رصد عيوب رجال السياسة في ممارسة السلطة من خلال إبراز ضبابية المعنى القدحي الذي يتضمنه العنوان الجريء للعمل، فالدولة العميقة ليست مفهوماً واضحاً يمكن الارتكان عليه في مجال العلوم السياسية، فهي مصطلح فضفاض، شاع بهدف تبيان المؤامرات التي تسود داخل الدولة الصغيرة والتي تحكم وتسير مؤسسات الدولة كنظام حكم شرعي، حيث بات تحميل مسؤولية ما يحدث في كل دولة إلى الدولة العميقة فيها.
يعد هذا العمل الدرامي قطعة فنية نادرة من حيث كتابة السيناريو المبني على مضمون نقدي، يضع فيصل البلوشي رجال السلطة والسياسة في دائرة المساءلة المستمرة نظرا للهفتهم اللامتناهية من أجل تحقيق مآربهم ومصالحهم الذاتية، بعيدا عن القيم الأخلاقية التي ترنو السياسة ترسيخها من خلال تنظيم العلاقات بين الناس داخل فضائهم المشترك، ولعل هذه الكتابة المحكمة تظهر قيمتها بصريا من خلال التقنيات العالمية المتطورة التي يوظفها الماروق ولأول مرة في عمل درامي عربي لايقل أهمية من حيث صورته عن باقي الأعمال الدرامية الغربية، حيث جاءت معظم أحداث المسلسل مفعمة بطاقة قوية تعكس رهبة الكاميرا والعين التي تقف خلفها لالتقاط صور دالة على الصراع الذي تعيشه العصابات السياسية من أجل مراكمة الثروات بعيدا عن كل ما تدعو إليه الانسانية من قيم النبل والتعايش، وكأن المسلسل تصوير للفلسفة الميكيافيلية التي رفعت شعار «الغاية تبرر الوسيلة»، وكأننا منذ بداية المسلسل أمام حرب خفية, الضعيف فيها هو المواطن والقوي هو من يمثل السلطة ويهيم عشقا بممارستها, كنت أتساءل ماذا كان سيحصل لو تم تكليف مخرج آخر بإنجاز العمل من غير الماروق؟ للأسف لاينبغي أن نسمح لأنفسنا بوضع هذا السؤال لأن الجواب عنه واضح خصوصا وأن عالم الدراما اليوم يفتقد لمخرجين يمتلكون إحساسا ورقيا في نقل العواطف الإنسانية للمتلقي وجعلها حقيقية بعيدا عن التصنع والمبالغة في الأداء، كما لا ينبغي أن ننسى اجتهاد الماروق في توظيف أحدث التقنيات في التصوير والتي تعود على العمل بها في كليباته السابقة كغالي لعاصي الحلاني أو –شكلك ما بتعرف أنا مين– لمايا دياب أو ممنوك أنا ملحم زين، والتي كانت تتطلب ميزانيات ضخمة لتخرج من وجودها بالقوة إلى الفعل.
ما شدني فعلا في عمل سعيد الماروق علاوة على التقنيات المستعملة، قوة الإدارة الفنية داخل بلاطو التصوير، ومن خلال توزيع الأدوار قد لا نبالغ إن قلنا أن إيمان المارق بالجزء قبل الكل جعله يركز على قوة كل مشخص سواء من ناحية انفعالاته أو طريقة تشخيصه، وهو ما نلمسه في رصد الأحداث بكادرات تثير الرهبة في وجدان من يرى هذه المادة الدسمة الخالية من أي تمطيط يقتل الفرجة ويهمد روح التشويق, فعلا نحن أمام دراما معاصرة في كل شيء سواء على مستوى الكتابة أو التصوير أو الأداء بعيدا عن النمطية التي تعرفها الدراما العربية اليوم والمستغرقة في كل قصص الحب والخيانة والأحلام الوردية.
جودة المنتج الفني لا تستغني عن العناصر التي ذكرت (أحدث التقنيات / ممثلون محترفون / الحبكة المحكمة.. وعناصر أخرى اهل الاختصاص أدرى بها منا) ولكنها أيضا تجد مالها، أو تقترب على الاقل، إذا كانت له رسالة؛ رسالة تتكشف عكسيا مع العمر الزمني للعمل الفني، وما أن يلفظ هذا الأخير آخر أنفاسه حتى تتألق فكرته وخلاصته ناصعة البيان في سماء المشاهد.
De ce là, on arrive à griffer que tout œuvre littéraire que ce soit, n’aura sa grandeur que s’il s’inscrit sous un des grands slogans de la vie, et surtout ceux qui ont la légitimité du contemporain.
Merci Prof de votre essai et bonne continuation.