
رانيا بخاري – السودان
إنه الأول من شهر يناير، الريح تصفر صفيراً شديداً يعبث بالأبواب، أذان الفجر ألجم دويّ الريح، انقلبتْ على شقِّها الأيسر تفتح عينيها بصعوبة ولكنها تحسم أمرها و تلعن إبليس: (الله يلعنك يا إبليس) هكذا تمتمت زينب ومن ثم توضأت لصلاة الفجر، وبعد أداء صلاتها بدأت بتجهيز أدوات عملها استعداداً ليوم جديد، حملتها متوجهة إلى مقر عملها بميدان جاكسون بالخرطوم، يلهج لسانها بـ : الحمد الله الذي أماتنا ثم أحيانا أصبحنا وأصبح الملك لله، وقفت في الشارع العام تنتظر مواصلات
الخرطوم، تتلفت يمنة ويسرة والشارع يكاد يخلو إلا من بعض الرجال القادمين من صلاة الفجر، وبعد انتظار قارب نصف الساعة لاحت من على البعد عربة ترسل إضاءة طويلة أمامها فالوقت مازال مبكراً ، والطريق مظلم ، مدت يدها وأوقفت العربة، استقرت في أحد الكراسي، و ما إن تحركت العربة حتى سرحت بخيالها مسترجعة محطات من حياتها مع كل محطة من محطات الطريق الذي تسير عليه المركبة منذ ليلة زواجها إلى اليوم الذي غاب فيه زوجها بحثاً عن لقمة عيش ضن بها بلده، وها هي ذي السنوات قد بلغت الثلاثين دون خبر يفيد بحياته أو مماته، تقف المركبة مع كل محطة تنزل ذاك أو تلك، وهى مستغرقة في شريط حياتها، الذي قطعه صياح الكمساري : ( النازل ميدان جاكسون) لملمت ذكراها مع عدتها ونزلت متجهة إلى حيث تعمل في ظل شجرة نيم كبيرة، أخرجت مستلزمات عمل الشاي، نفضت من (الكانون) رماد الأمس ، ومن ثم وضعت حبات الفحم وأشعلت النار ممسكة بالهبابة تهب النار، و ظلت تهب وتهب إلى أن أصبح الجمر أحمر اللون، وضعت (الكافتيرا) وبعد ثوانٍ فار الماء، وبدأ الزبائن يتوافدون أفراداً و جماعات لاحتساء الشاي هذا يريده سادة، وآخر يريده كشري، وآخر بفضله ممزوجاً بحليب، الناس أمزجة ورغبات، تعلمت زينب في ظل تلك الشجرة الكثير وتحملت الكثير، وباتت تعرف المزاجي والمستعجل والمتعالي والمعقد والسارق، كل تلك الأنماط تعاملت معها ، انتهت فترة الصباح وفر الزبائن إلى أعمالهم، نادت زينب زميلاتها ودعتْهُنَّ لتناول المتبقي من الحليب ، جئنها كل واحدة منهن تحمل بنبرها وتحلّقنَ حول شجرة زينب كعصافير تشقشق عند الصباح معلنة ابتداء يوم جديد، تجاذبن أطراف الحديث، تحدثن عن غلاء الأسعار والمعيشة وغيرها من الموضوعات، ثم انصرفت كل واحدة إلى ظل شجرتها، وآذنت الشمس بالمغيب معلنة انتهاء يوم