
محمد البقالي
تعتبر ” الحريرة ” حساء من الأطباق التي نجد أنها ضيفة شرفية على موائد المغاربة وخصوصا في شهر رمضان الأبرك، حيث تشكل أهم أسس المائدة الرمضانية وأحد ركائزها،هذا بالإضافة إلى حضورها في الأعراس والمناسبات والتجمعات العائلية المختلفة. وعلى عكس ما يظنه المغاربة، فالحريرة لسنا من طبخها أول مرة، ولا نحن أول من فسخ حمصها، بل هي طارئة علينا ودخيلة ومدسوسة، وكانت سببا من أسباب سقوط الأندلس حيث جاء على في كتب المؤرخين أنها من أصل أندلسي قبل مئات السنين.
فإلى غاية القرن الثاني عشر لم نكن نفطر بها في رمضان، ولم تتربع على عرش مائدتنا،
وقد حدث ذلك، حين أهدى ألفونسو الثامن جارية قشتالية شقراء وفاتنة الجمال إلى والي قرطبة، بعد سيطرة الموحدين عليها،وقد سر بها الوالي أيما سرور، وصار يفضلها على زوجته، ويختلي بها لأيام، ويهديها الديباج والحلي التي تأتي القوافل محملة بها ،إلا أن جمال الجارية القشتالية كان يخفي مؤامرة تحاك في السر ضد المسلمين، بتواطؤ مع الفرنجة والكنيسة، حيث اختاروها بعناية بين مئات القشتاليات اللواتي كن يسلن لعاب العرب والمغاربة، وعلموها الرقص، وفنون الغنج، والشعر والطبخ، ولقنوها مقادير هذه الشوربة الخطيرة.
وفي يوم من أيام رمضان، كان والي قرطبة يتفقد حريمه، ويتبعه عبده كظله، إذ شم رائحة نفاذة ومخدرة، فأمر العبد أن يأتيه بمصدرها، فتبعها الأخير بحاسة شمه القوية والمدربة، إلى أن وجد نفسه في غرفة جاريته واقعا في الفخ الذي نصب له من طرف النصارى.
وعلى غير عادته، ومنذ أن تذوقها، لم يعد يفطر مع أولاده وزوجته، ولم يعد يرضى بالبرقوق الأندلسي والرمان والتمر والحليب والكسكس، كما أنه أهمل أحوال الرعية. وقضى كل رمضان عند جاريته القشتالية، منبهرا بتلك البرمة العجيبة التي كان يطبخ فيها ذلك الحساء.
وبمجرد أن يشربها، كان الوالي يشعر بتخدر، ورغبة في النوم، أما حين يستيقظ، فكانت رغبته تزداد اشتعالا، ويزداد هيامه بجاريته القشتالية الفاتنة التي تتدلل له لتنفذ خطتها كما رسمها لها القساوسة، وكلما طبخت برمة حريرة جديدة، زادت من كمية الكرفس، بهدف تهييجه أكثر، وتنويمه، وإبعاده قدر المستطاع عن رعيته، وعزله عن خليفته الموحدي، وإلهائه عما كان يطبخ للمسلمين في السر. هكذا ظلت الحريرة تتغلغل، وتفسد الطباع والعقول، وكلما جاء رسول من المغرب، كان الوالي يقدمها له، وعندما يعود، كان يخبر الخليفة المنصور بأمرها، وبلذتها، وبوجود حمص فيها، وكزبرة، وطماطم، وكرفس، كما انتشر صيتها في إشبيلية وغرناطة، فأصبح الإقبال عليها كبيرا، ولم تعد تخلو مائدة منها، وفق الخطة المرسومة بعناية. وأثناء ذلك، كان “ألفونسو” والقساوسة قد كونوا فوجا جديدا من أجمل الجواري القشتاليات، وعلموهن طريقة إعدادها، ثم أهدوهن إلى ولاة الأندلس، وأرسلوا أخطرهن إلى الخليفة، الذي سبق له أن بعث كتابا لولاته يطلب فيه منهم أن يرسلوا إليه على جناح السرعة أبرع طباخة للحريرة في كافة الأندلس، وكان الوقت حينها شهر شعبان، فوصلت إليه في مع ظهور هلال رمضان، وزادت على الكرفس سمنا، وأضافت إلى الحريرة كوزة (جوزة الطيب) مدوخة، وفق التعليمات التي تلقتها من النصارى، الذين توصلوا إلى أن الكرفس وحده لا يكفي، لهزيمة المغاربة، فأضافوا إليها الكوزة، مستعينين بكتاب سري لحكيم اليونان جالينوس، فتذوقها الخليفة، وأدمن عليها، وكان يغط في النوم، ليسرقها الخدم والعبيد، ويملؤون منها القدور. ومع الوقت، صارت منتشرة في المطبخ المغربي، واقترنت برمضان، وزاد نعاس المغاربة، وزادت رغبتهم في الاستلقاء، كما ازداد شعورهم بالراحة والطمأنينة، وتكاثروا في تلك الفترة من التاريخ، دون أن يفطن أحد منهم إلى دور الكرفس في ذلك، رغم وجود كثير من الكتب التي كانت تحذرهم من أن تلك البقلة “تحرك الباه مطلقا ولو بعد اليأس”، فانتشر داء الكسل، وبعد أن نفذت الجواري القشتاليات مهمتهن بنجاح، وطبخن لنا الحريرة التي ستقضي علينا، عدن إلى ألفونسو في الليل، تاركات آخر برمة حريرة تغلي، ولجأن إلى دير بعيد عن سلطة الموحدين، وهناك تمت مكافأتهن، واعتبرتهن الكنيسة “بنات الرب”، ومنهن من صرن قديسات، مازال المسيحيون يتبركن بهن إلى هذه اللحظة.
وفي تلك الفترة، بدأت علامات انهيار الدولة الموحدية تظهر للعيان، فلمع نجم ابن أبي الطواجين، وصار المرينيون على بعد خطوات من الوصول إلى الحكم، وكلما كانت الحريرة بالكرفس تتغلغل في بطوننا، كان خروجنا من الأندلس يقترب خطوة، إلى أن فقدناها وطردنا منها، ومنذ ذلك الحين ونحن نبكي ملكا مضاعا لم نحافظ عليه ،ولا ندري اليوم أن السبب كان هو الحريرة، وفي كل رمضان نشربها، ونتخدر، وندوخ، ونظن أنها نتاج خالص للمطبخ المغربي، مثلها مثل الكسكس، بينما هي دخيلة، دستها في مائدة إفطارنا قشتاليات شقراوات خدعننا وسحرن ولاتنا بطبخهن وجمالهن، ففقدنا فردوسنا، بينما لم يحتفظ النصارى بالحريرة، لأنهم كانوا على علم مسبق بأثرها المدمر، ودورها السلبي في أفول الدول وزوال الأمم.
وبعيدا عن هذا الصدد وعودة لأهميتها الغذائية يقول ” نبيل العياشي ” أخصائي في علم الحمية والتغذية ” إن الحريرة المغربية تعتبر غذاء كاملا، لأن فيها نشويات وخضروات، كما تحتوي على البروتين المستمد من قطع اللحم، ومن القطاني”. ويضيف : ” أن القطاني تعدا مصدرا مهما للطاقة، وفيها النشويات بشكل كبير،وتعد مصدرا مهما للأملاح المعدنية، وعلى رأسها البوتاسيوم، كما تضم الفوسفور والحديد لذا فهي تمد الجسم بالطاقة الكافية ” .