
شهدت مدينة طنجة، مساء أمس، حدثًا فنيًا استثنائيًا جمع بين الوفاء للأرواح الخالدة في التشكيل المغربي وبين التجدّد الإبداعي المعاصر، وذلك من خلال افتتاح معرضين تشكيليين للفنان المغربي الرائد عزيز السيد، أحد أعمدة الفن التشكيلي في المغرب، وذلك تكريماً لروحي الفنانين الراحلين محمد الدريسي وعبد الباسط بندحمان.
وقد جاء هذا النشاط الفني والثقافي بتنظيم مشترك بين رواق Dar D’Art ورواق الفن المعاصر محمد الدريسي بالمديرية الجهوية للثقافة بطنجة، في مبادرة تعبّر عن روح الاعتراف والاحتفاء بقامات الفن الوطني الذين أثروا المشهد التشكيلي المغربي بطاقاتهم الجمالية والتعبيرية.
تم افتتاح المعرض الأول مساء الخميس 3 يوليوز 2025 برواق Dar D’Art، يليه المعرض الثاني يوم الجمعة 4 يوليوز برواق محمد الدريسي، حيث توافد جمهور من الفنانين والنقّاد والمهتمين بالشأن الثقافي والفني، للاطلاع على آخر أعمال الفنان عزيز السيد، التي تميّزت بعمق بصري وانخراط في تجريب جمالي معاصر يعانق الجسد والرمز والحرف، بتقنيات متفردة ومراجع ثقافية متشابكة.
تنتمي أعمال عزيز السيد، المولود سنة 1946، إلى مدرسة رمزية تعيد تعريف الجسد الإنساني ضمن شبكة من الزخرفة والحروف والمنمنمات، حيث تتحول اللوحة إلى مساحة طقسية تحتفي بالهوية المغربية بتلاوينها الأمازيغية والعربية، وتعيد ربط المعاصر بالتراثي دون أي تناقض.
منذ تخرّجه من أكاديمية الفنون الجميلة في كراكوف البولندية، استطاع السيد أن يؤسس تجربة تشكيلية مغربية أصيلة، كانت فيها “المرأة والجسد” ثيمة جوهرية، ولكنها لا تُقدَّم بمنظور استهلاكي أو بصري محض، بل ضمن سياق فني عميق يُعيد الاعتبار للجسد بوصفه مركزًا للحس والذاكرة والرمز.
وجاء هذا المعرض وفاءً لروحين شكلتا جزءاً من ذاكرة الفن المعاصر في المغرب، وهما الراحل محمد الدريسي، الذي يُعدّ من أبرز الأسماء في الفن المغربي الحداثي، والفنان عبد الباسط بندحمان، الذي ترك بصمته الجمالية المميزة في فضاء التشكيل المحلي والعربي.
المعرضان حملَا بعدًا إنسانيًا وجماليًا في الآن نفسه، حيث أكد المنظمون أن هذه المبادرة ليست فقط تظاهرة فنية بل أيضًا لحظة رمزية للوقوف عند سير فنانين قدّما الكثير للمشهد الثقافي المغربي، دون أن يحظيا في حياتهما بالاحتفاء الذي يستحقانه.
كلمة الفنان: الجسد ليس للمتعة.. بل للتماهي الروحي
وفي كلمة مؤثرة خلال افتتاح المعرض، صرّح الفنان عزيز السيد قائلاً:
“أبحث بواسطة الجسد عن خطاب بصري جمالي معاصر لا يخدش الحياء. فالجسد الأنثوي الذي شغل الإنسان والأديان وتاريخ الفن، هو عندي بسكونه وتموجاته وتمرده لا يكشف عن مفاتنه كجسد للمتعة، بل هو في تناغم تام مع مفردات الزخرفة التي تخدم بناء اللوحة، وبالتالي يمنحها ثراءً في خلق متعة بصرية وعمق روحي“.
كلمة تعكس رؤية هذا الفنان الذي يؤمن بأن اللوحة ليست مساحة للعرض بل للعبور، وأن الفن ليس فقط إعادة تمثيل، بل إعادة كتابة الذاكرة والحس والهوية من جديد بلغة الألوان والخطوط.
وبهذا الحدث، تثبت مدينة طنجة أنها لا تزال تحتفظ بمكانتها كمنصة للفن الحيّ والمتجدد، وأنها لا تنسى أبناءها من الفنانين الذين أناروا دروب الإبداع لعقود. وبين رواقين اثنين، وروحين خالديْن، وفنانٍ ما زال يمنح الجمال شكله المغربي الخاص، كان مساء الجمعة ليلة تليق بالفن الحقيقي، وتُعيد بعضًا من الوهج لذاكرة التشكيل المغربي.








