ثقافة وأدب

سجناء حتى إشعار آخر

عبد السلام الكلاعي رصده في "أسماك حمراء"

بقلم الناقد: حمدي تريعي

سجناء حتى إشعار آخر،  عنوان بديل يلخص ما أراد عبد السلام الكلاعي رصده فيأسماك حمراءمن خلال رؤية إبداعية تصور الواقع كما هو دون زيادة أو نقصان، ما أعجبني صراحة في هذه الوجبة السينمائية أنها لا تسد جوع وعطش عشاق الفن السابع، لأنها ليست وجبة سريعة سهلة الهضم بقدر ما هي دراما وثائقية دسمة تسلط الضوء على ثلاث نساء وضعهن القدر على هامش الحياة، فبعد أن عانقت حياة الحياة من جديد بخروجها من السجن، وجدت نفسها في سجن آخر بأمكنة متعددة ومساحة أكبر ، كلما اتسعت ضاق صدرها بها وبغصة العار الذي باتت تحمله بعد رفض مجتمعها لها(الأخ والابن)، أما أمل المرأة العاملة داخل شركة للفواكه فهي  الأخرى سجينة داخل مصنع، كل ما تمتلكه فيه قوة عضلية تنتجها بنية جسمانية هشة، من أجل ضمان البقاء لتكرار ما تقوم به يوميا، وكأنها سيزيف زمانها حكم عليها بالشقاء المزدوج؛ شقاء يرسخ استعبادا واضحا من خلال الجري وراء قوت اليوم، وشقاء آخر رمزي يعكس إنسانية الإنسان، من خلال قدرته على الصبر والتحمل الذي ترصده عين الكلاعي الثاقبة والواضح في زحف أمل لرعاية هدى، السجينة الثالثة لجسدها ولحتمية طبيعة جسمها الذي يغيب رغبتها في العيش، إذ لاتختلف مأساة أمل عن حياة، فالأولى سجينة ماضيها والثانية أسيرة فقر وبنية اجتماعية هشة، أما الثالثة، فهي الخانعة لحتمية القدر، إنها الوحيدة التي تملكها شلل دماغي حال دون نمو عقلها، وتطوير وسائل إدراكها للواقع، وربما كانت في نظري المحظوظة من بين الثلاث نساء لكونها لا تستطيع تحليل سينوغرافيا العدم الذي يدب في روح كل من حياة وأمل، مع ذلك تمتلك شعورا بالبؤس الذي يدور حولها.

استطاع الكلاعي بحنكته وتصوره للعالم أن يقلب اتجاه السينما المغربية رأسا على عقب، فبعد أن توغل زملاء الفنان في رصد الجسد في تفاصيله الدقيقة وفق مشاهد برنوغرافية فجة، حاول السي عبد السلام وضع رؤيته إزاء مفارقة عجيبة غيب فيها المسافة بين الهامش والمركز، فنجح في جعل ماهو غير مرئي مرئيا في حدوده القصوى، علاوة على أن مدة الفيلم الزمنية اختزلت مدى الاتصال الروحي والوفاق بين الشخوص التي يديرها المخرج وبين التقنيين والعاملين في الكواليس، لدرجة أن أفكار الكلاعي القاتمة حول الواقع ترجمتها الصور المتتالية للعمل وفق مشهدية تنبض بالمعاناة، وكأن الرجل أصر أن يكون صادقا مع نفسه دون أن يمتلك جرأة الإدانة الواضحة لما تعيشه الأسماك الحمراء

ما يستنتج من فيلم عبد السلام الكلاعي أن أسماك الزينة الحمراء رغم جماليتها محكوم عليها بأن لا تعيش خارج فضاء أوسع، فمهما حاولت ستلتهمها الحيتان، وبالتالي فاختيار اللون الأحمر كنعت للأسماك دليل قاطع على أن شروط الواقع تظل عائقا أمام الإنسان، ولن أجازف  إن قلت أن هذه اللوحة الفنية التي اعتقلها الكلاعي لتبوح بالصامت فيها تعد ملحمة تفوح بالماركسية وقضايا الإنسان في كل زمان ومكان

ولأن أي عمل لايخلو من بعض الهفوات التي ينبغي أن يسلط عليها الضوء بهدف التقويم، فإننا هنا نجسد أنفسنا مضطرين لمساءلة الكلاعي عن هذه الوصفة الدسمة التي تعالج عدة مشاكل بأبعاد مختلفة، لدرجة أن تركيزنا حول قضية واحدة في العمل أمر شبه مستحيل، كون أن الفيلم يعج بأحداث كثيرة كان عليها أن تمطط إلى حد معتدل، ليستوعبها الناس باختلاف مداركهم، كما أن الصورة القاتمة للفيلم وكذا بعض الكادرات والزوايا تجعلنا كمتفرجين لانستشعر التسلية التي ترنو السينما بثها في روح المتفرج، رغم أن هناك ومضات أمل قليلة تخللت الفيلم، إلا أن ما يعاب على المخرج أنه فضل الاشتغال مع وجوه ألفتها عينه فجعلها تبدو بذلك كما سبق أن ظهرت في أعمال أخرى قديمة، فلو اقتربنا من شخصية الناجي سنجدها في هذا الفيلم ضعيفة جدا خصوصا بعد أن وضع الفنان نفسه في إطار محكم الإغلاق لدرجة أن حركاته ونظراته وتقاسيم وجهه جعلت هويته الفنية واحدة لا انشطار فيها، فغدى مجرد وسيلة يوظفها المخرجون من أجل إنجاح مشاهد البؤس والقلق والثوثر والهدوء الذي يسم ملامح الرجل، نفس الشيء بالنسبة لجليلة التلمسي التي لم أعد ألمس تجديدا في أدائها_خصوصا مع الكلاعي_ وكأنها بروح واحدة محكوم عليها بأن تعيش الاكتئاب في جميع مشاريعها السينمائية معه، ونتمنى فعلا أن لا تكون بعد اليوم صادقة في أدوارها الدرامية خوفا من أن يصيبها ما أصاب مارلين مونرو التي استنتجت في نهاية حياتها أنها جسد بلا روح، تم استهلاكه كسلعة فكانت النتيجة قتل شخصها هربا من سلطة الكاميرا والتشظي النفسي الذي ما كانت تحسه في الماضي، أما الشوبي ورغم إمكانياته التمثيلية أجد حضوره قد جاء فقط من أجل سد الفراغ لا أقل ولا أكثر، وهذا ما يجعلنا ندين الكلاعي الذي لايتوانى في أعماله عن دعوة المقربين منه فنيا وكأنه يقتصد جهد إدارة الوجوه الجديدة، علاوة على تناسيه لبعض الرواد كسعاد صابر وماهماه وبوحمالة وعبد القادر مطاع  وميكيات واللائحة طويلة

          في النهاية ينبغي أن نشيد بفاكهة العمل المثيرة نسرين الراضي التي نجحت في تقمص دورها إلى حد بعيد من خلال توظيفها لجسدها بشكل مبدع لدرجة أن المشاهد صدق أداءها كمعاقة تعيش بين متطلبات الجسد والواقع الهش، فرغم الجدل الذي تثيره هذه العبقرية بين الفينة والأخرىبتقمصها لأدوار الفتاة المتمردة*-*bad girl تظل الراضي كوبرا السينما المغربية لأنها قادرة على تغيير جلدتها بشكل مستمر، مبدعة تسير بخطى ثابتة نحو الاحتراف، ولن أستغرب إن وجدتها يوما في عمل عالمي، لأن لها من المقومات ما يغيب لدى بعض الممثلات اللاتي نجحن ببروباغاندا الإعلام فصرنا مجرد فقاعات صابون  تنفجر بدون سابق إنذار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى