
تشغل القضية الفلسطينية بال الأمة العربية و الإسلامية و كل مهتم بالقضايا الإنسانية، و بما أننا بصدد سلسلة استقراء رسائل الأقدار، التي نحاول من خلالها سبر خبايا أسرار القدر مع فضيلة الأستاذ محمد أيوب الهسكوري، سنحاول في هذا اللقاء معرفة الرسالة الإلهية التي تضمنتها القضية الفلسطينية.
ما هي مكانة المسجد الأقصى في الإسلام؟
الحمد لله، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه
اعلم – يرعاك الله – أن المسجد الأقصى له مكانة شامخة في الإسلام، فهو أولى القبلتين، فقد صلى المسلمون إليه نحو سبعة عشر شهرا قبل أن تتحول قبلة المسلمين إلى الكعبة، كما لا يخفى على شريف علم القراء.
و هذا له أكثر من دلالة: فالتحول الذي طرأ على القبلة ليس تحول أفضلية لمكان على مكان، إنما هو لربط السابق باللاحق، والمطلق بالنسبي، والجزئي بالكلي.. بمعنى أوضح: أن علاقة الكعبة بالمسجد الأقصى هي علاقة وطيدة منسجمة أزلية، يمثلان دلالة على انسجام روح الأمة و جسدها.. فكما خلقت الروح قبل الجسد.. كان وجود الكعبة قبل المسجد الأقصى كما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: << قلت : يا رسول الله.. أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي: قال المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال أربعون سنة >> حديث رقم : 520
و الأربعون سنة المذكورة هنا لها سر عجيب.. وهو أن آدم – كما جاء في الأخبار – بقي صلصالًا كالفخار أربعين سنة، ثم نفخ الله فيه الروح فسَرَتْ في جسمه .. فافهم عن ربك
ثم نجد أغلب الروايات تقول بأن الله تعالى بنى الكعبة، و أوكل مهمة بناء المسجد الأقصى إلى سيدنا آدم عليه السلام…
لهذا تولى الله حماية المسجد الحرام، و أوكل حماية المسجد الأقصى للمؤمنين لذلك أقول: المسجد الحرام يمثل بقاء الأمة، أما المسجد الأقصى فهو يمثل وجود الأمة..فالبقاء ضد الفناء.. أما الوجود فهو مشروع إرادي قائم على الفكر و الفعل، الدين و الحضارة..
إذا فرمزية علاقة المسجد الحرام بالمسجد الأقصى تعني علاقة روح الأمة بجسدها.. و أضيف:أنها تعني العلاقة المنسجمة و المترابطة بين الدين و الحضارة في أمة الإسلام
فمتى رأيت أن المسجد الأقصى و المسجد الحرام ترفرف فوقهما راية الإسلام الوارفة الظلال.. يسود فيهما العدل و الحق.. تجتمع تحت سدته مختلف الأطياف و الأديان و الأجناس.. فاعلم أن المسلمين ارتبطوا بدينهم و بنوا حضارتهم.. و متى رأيت عكس ذلك فاعلم أنه وقع عكس ذلك..
وما معجزة الإسراء إلا تتويج لهذا المعنى، بحيث أن الله سبحانه ذكر أكثر من رمزية في طليعة سورة الإسراء تعزز هذا الطرح، قال سبحانه: ﴿ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ﴾ الإسراء: 1
فهذه الآية تجمع بين حقيقة المسجدين و دلالتهما، كما تبين سر الجمع بينهما بتحقيق العبودية لله تعالى.. ولعلنا سنعود قريبا في عدد لاحق لبسط هذه الآية و نقف على أسرارها العجيبة.
ما هو واجبنا نحو المسجد الأقصى؟
نصرة المسجد الأقصى ليس فقط مسؤولية الفلسطينيين أو الحكام أو القادة أو جهة معينة.. بل هو مسؤولية أمة.. فهو له حق على كل مسلم على وجه الأرض.. لكن كيف ذلك؟
لا تظن أن نصرة المسجد الأقصى تتوقف على الخطابات الحماسية البراقة.. أو بتدوينة باردة على شبكة التواصل الاجتماعي.. أو حتى بالخروج في المظاهرات و رفع اللافتات .. و كفى، فالقرآن الكريم قبل ألف و أربعمائة سنة تكلم عن هذه الأزمة، و عن حلها كذلك..
قال تعالى: ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ( 4 ) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ( 5 ) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ( 6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ( 7 ) ﴾ الإسراء: 4 – 5 – 6 -7
فتكلم الله عن إفساد بني إسرائيل العظيم في الأرض، و أن كيانها لن يزول حتى يكتمل فسادها.. و أن الله عز وجل نصر أمته التي حققت العبودية الخالصة لله سبحانه، و أعادوا فتح المسجد الأقصى كما فتحه الصحابة رضوان الله عليهم..
فواجبنا الحقيقي نحو المسجد الأقصى هو تحقيق العبودية لله، و معناها التحرر من رقبة التبعية لغير الله.. فأمة لا تصنع ما تركب، و لا تنتج ما تلبس، و لا تقرر فيما تريد لم تحقق بعد العبودية لله..
فكما أن المسجد الحرام وجهة العبادة.. فإن المسجد الأقصى وجهة العبودية.
لذلك نجد أن الله تعالى استهل سورة الإسراء بوصف سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم بـالعبد: ﴿ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ﴾، ثم عندما ذكر الفاتحين للمسجد الأقصى وصفهم بالعباد: ﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا ﴾
فخلاصة القول و زبدة الكلام: أن النصر مرتبط بإخلاص العبادة لله، و تخليص العباد من الاستبداد و الاستعباد..
من أين نبدأ إذا أردنا أن نحرر المسجد الأقصى؟
الجواب على هذا السؤال مسطر في القرآن الكريم بأوجز العبارات، قال سبحانه : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ الرعد: 11
فربنا عز وجل جعل تغيير الوضع مرهونا بتغيير الحال، فإذا تغير حال الأمة تغير وضعها.. و التاريخ خير شاهد على هذه الحقيقة القرآنية، فالصحابة عندما تغير حالهم الجاهلي غير الله وضعهم من رعاة للإبل و الغنم إلى قادة للدول و الأمم في مدة لا تساوي في حساب التاريخ شيئا على الإطلاق.. و كتبت أسماؤهم على أضخم الصروح العلمية و الأدبية..
فإذا تغير حال الأمة من السلبية إلى الإيجابية، من الكسل إلى العمل، من الجهل إلى العلم، من الانهزامية إلى الطموح، من التواكل إلى التوكل، من الذل إلى العز، من الخوف إلى الشجاعة.. سيغير الله وضعها من مؤخرة الأمم إلى القيادة.. من التسول على موائد التقدم العلمي و التكنولوجي.. إلى الإنتاج و الإبداع و النجاح.. فحقيقة النصر في فلسفة الإسلام تأتي من داخل الكيان المجتمعي و ليس من خارجه..
ثم قال سبحانه في آية أخرى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ محمد: 7
فاشترط الله سبحانه و تعالى على المؤمنين نصره كي ينالوا نصرته.. لكن كيف ننصر الله؟
نصر الله يكون بنصرة دينه، و ذلك بأن نكون قدوة للعالمين في سلوكاتنا، و إبلاغ دينه القويم للناس بالحكمة و الرحمة، تأسيا بالأسلوب المحمدي الرؤوف الرحيم، و العمل على إعمار الأرض و نفع العباد و البلاد.
فإذا علمت الأمة هذا هكذا، وضعت قدمها في أول الطريق نحو النصر و التمكين.
و الحمد لله رب العالمين.