قصة قصيرة تحت عنوان – لينا – للكاتب سعيد نعام



مشيت في الشارع الطويل بخطى سريعة، كان الطقس باردا أحاطت به سحب سوداء، وغيوم حجبت ضوء الأرض، معلنة عن قدوم عاصفة ممطرة هائجة، أخبر بها لمعان البرق، تلاه دوي الرعد في فرقعة حادة، وبدأت الأمطار تنهمر دون رغبة في الفتور، وصار الناس يركضون في اتجاهات مختلفة كالمجانين، مخافة أن تبلل الأمطار ثيابهم، بحثت عن مكان أنزوي فيه، يقيني هجوم سيول من المياه، تنجرف بقوة تحت قدمي، تتسلل باردة إلى حذائي، وشعرت بأصابع رجلي تنكمش وتتجمد، لم يكن بحوزتي مطرية، وضعت يدي فوق رأسي، وأسرعت مهرولا باتجاه موقف الحافلات، مكان مواعيدنا المعتاد، لا أحد سواي يقف به، نظرت إلى ساعتي اليدوية، فوجدت عقاربها تتعانق عند مفترق السادسة مساء، شعرت بقشعريرة تحاصر جسدي المبلل فلم أبال، تسمرت واقفا أنتظرها في نفس المكان، الذي تعودنا على اللقاء فيه منذ سنوات، فرأيتها تمشي في هدوء، وبيدها مطرية برتقالية، عريضة الشكل، غطت نصف جسدها، كنا نسير كل يوم، في جولة طويلة حتى نهاية الطريق، نتحدث، نضحك، نفرح، نمرح، ثم نفترق أنا غربا وأنت شرقا، ولطالما تمنيت أن يظل الطريق طويلا، حتى لا نفترق أبدا.



ظلت السماء تمطر بغزارة، ورأته ينظر إليها شاحب الوجه، مبلل الثياب، فطلبت منه أن يركض إليها، وما أن وصل حتى التصق جسمه بجسمها، وأحاط خصرها بذراعيه، بينما أسندت برأسها على كتفه، وأغمضت عينيها وقلبها يرفرف من فرط السعادة.
كانت مليئة بالحياة، مقبلة عليها، إقبال الفراشة على الزهور، وكانت تلك الفراشة ملاكا لم يتخط الثامنة عشرة ربيعا، لم أكن أخطأ سبيلي في العثور عليها، كلما زارني طيف الضجر، وأحسست بالحزن والاكتئاب يتسللان إلى قلبي، فقد كانت مدينتنا صغيرة، قبل أن تخدش وجهها البهي، مخالب الإسمنت والآجور، وقبل أن تتحول كأول حاضرة في المغرب، إلى حظيرة تعج شوارعُها بالمقاهي، وجيش من الحمقى والمعتوهين، وماسحي الأحذية، وقطاع الطرق. كانت تنزوي في ركن من أركان دار الثقافة، وتدفن وجهها المستدير الباسم، بين دفات الكتب والمراجع، تنهل منها نهلا، بحثا عن إشباع معرفي، وريٍّ فكري وثقافي، وحين اجتمعنا يوما، نخبة من شباب المدينة الغيورين، من أجل تأسيس جمعية ثقافية، كانت لينا أول من أمسك بمشعل التحدي والمبادرة، لتعلن انضمامها إلينا كعضوة نشيطة، لا تأخذها سِنةُُ من كسل. كنت أتابع كل حركاتها، وأستمع إلى صوتها الدافئ، المنساب في هدوء، كخرير مياه نهرٍ رقراقٍ، وهي تلقي كلمتها، أو تدلي برأيها في اجتماع ما، وكان شعرها الطويل الأسود كلَيْل الشتاء، حريريا منسدلا، مفترق الجدائل، فتمنيت أن يكون جمالها بردا وسلاما على قلبي، كلما التقيت بها، أو طاش سهم من أسهم نظراتي إليها.



تعشق المرأة الرجل الرومانسي، الذي يتغزل فيها، وبجمالها، ويتحدث عن أنوثتها. كانت كل هذه الأفكار تتصارع بذهني، تؤرقني، تعذبني، وصَعُب علي أن أجعلها تطفو على لساني، لتحل عقدته فيفقه قولي، وظل خجلي المقيت سدا منيعا، يحول بيني وبين مشاعري اليتيمة، كلما عقدت العزم على البَوْح أمامها بمشاعري الجياشة، وما أحس به اتجاهها، تمنيت أن أقول لها إنني أحبك، أن أرسمها بسمة في لياليَ الحالكة، قمرا يضاجع نورُه وسادتي الخالية، أن أعانقها كطفلة صغيرة، وأروي لها كل قصص الخيال، التي حفظتها عن ظهر قلب، فتنام مبتسمة مبتهجة على صدري.
يتبع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى