عبد القادر زعري
حينما قُلت له “إنك بالغت كثيرا يا صديقي”، فاجأني قائلا وبحماس “إنك يا صديقي مثقف وتقرأ الكتب كثيرا، لكن رأسك فارغ. ألم تعلم أنه في ليبيا وبعد خلع القذافي، وجدوا أنه كان بمجرد ما يولد الجنين يأخدون اسمه واسم والديه ويعملون من ذلك حجابا ثم يجمعون آلاف الأحجبة ويدفنونها في الإسمنت المسلح حتى تجف، ثم يلقون تلك الأطنان من الأحجار في قاع البحر”.
هنا تدخلت قائلا:
– كنا في الماء أصبحنا في السياسة. دعونا يا إخوان ثم توجهت إلى كبير السجناء قائلا.
– أخي عبد القادر قل لهم أن يأخدوا الماء المثلج. نحن في الصيف وعيد العرش قريب وهذا فأل حسن، ربما سمعوا أن الملك سيصدر عفوا مهما، لذلك يعاملوننا بالخير.
– لا.. اسمح لي أستاذ كلامي واضح. هذا الماء المثلج عبارة عن “قالب وكفى”. أنت تعرفني. دائما أتكلم صريحا. ومن أراد أن يشرب فعليه وزره.
لم يأخذ من الماء المثلج سوى صديقنا “ياسين” الذي كنت رويت لكم قصته الحزينة. ملأ منه قارورة، وقبل أن يشرب سمى الله وشهد “باسم الله الرحمان الرحيم. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله”.
بدأنا نضحك ولما شرب وارتوى وانتهى سألناه، لم البسملة والشهادة ؟ فقال على الفور:
– إن كان في الماء السحر فباسم الله يبطل السحر، وإن كان فيه السم، فسأروح للجنة وأستريح من البشر. فانفجر الجميع ضاحكين.
حمل الحراس برميل الماء وذهبوا للغرف الموالية، فصار زملائي يصيحون لباقي الغرف: “إياكم أن تشربوا الماء المثلج يا إخوان .. هذا الماء المثلج مجرد فخ .. “
لقد حاولت إدارة السجن بتلك الالتفاتة أن تعبر لهم عن مدى تعاطفها وإحساسها بالسجناء، لكن لا حينا ولا كل أحياء السجن استفادوا من براميل الماء المثلج، والسبب هو أن نفسية السجين تكون مطبوعة بلوم للذات، فيعتقد أنه مخلوق لا يستحق معاملة حسنة، وإذا رأى من أحدهم معاملة حسنة فهو إما تظل عنده مخلدة أبد الدهر، وإما يحسبها خدعة وراءها فخ ما.
راجعت ما وقع لي على ضوء هذا الحدث. ووجدت كلام السجناء فيه بعض الصحة،
فطيلة نكبتي وحتى بعد الإفراج عني، وجدت أن أقسى الضربات المؤلمة كانت مسبوقة بفخاخ منصوبة بأسلاك من ذهب ومذاقها من عسل.
(الصورة تعبيرية فقط)